الرئيسية - التفاسير


* تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ) مصنف و مدقق


{ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }

{ ضرَبَ الله مثلاً } للمجرّد والمقيد والمُشْرِك والموحد { عبداً مملوكاً } محبّاً لغير الله، مؤثراً له بهواه، فإن المقيد بالشيء يدين بدينه ويصدر عن حكمه، ويتصرّف بأمره، فهو عبده إذ كل من أحب شيئاً أطاعه، وإذا أطاعه فقد عبده. فمنهم من يعبد الشيطان ومنهم من يعبد الشهوة ومنهم من يعبد الدنيا أو الدينار أو اللباس، كما قال عليه الصلاة والسلام: " تِعْس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، وتعس عبد الخميصة " ، وقال الله تعالى:أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية، الآية: 23] وإذا عبده كان مملوكه ورقيقه. { لا يقدر على شيء } لأن المحب والعابد لا يرتقي همته وتأثيره وقوّة نفسه من محبوبه ومعبوده وإلا لما كان مقهوراً له، أسيراً في وثاقه، بل ينقض منه ومعبوده عاجز لا تأثير له، بل لا وجود سواء كان جماداً أو حيواناً أو إنساناً أو ما شئت، فهو أعجز منه وأذلّ، ولهذا قيل: إن الدنيا كالظلّ، إذا تبعته فاتك وإن تركته تبعك، فإن تابع الدنيا أحقر قدراً من الدنيا وأقلّ خطراً، ولا تأثير للدنيا فكيف به حتى يحصل له وبسببه شيء؟ وإنّ الدنيا ظلّ زائل، فهو ظل الظل ولا ظلّ لظلّ الظلّ، بل الظلّ للذات ولا ذات له فلا ملك له ولا قدرة. { ومن رزقناه منا رزقاً حسناً } ومن أحبنا وأقبل بقلبه علينا، وتجرّد عما سوانا، وانقطع إلينا، أعطيناه الأيد والقوة، ورزقناه المُلْك والحكمة، وأسبغنا عليه النعمة الظاهرة والباطنة لأنه متوجه إلى مالك المُلْك، منعم الكل، منيع القوى والقدر، فأكسب نفسه القوة و التأثير والقدرة منه، وتأثر منه الأكوان والأجرام وأطاعه الملك والملكوت كما أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: " يا دنيا اخدمي من خدمني، واتعبي من خدمك ". ثم إذا ربت همّته الشريفة عن الأكوان ولم تقف بمحبته مع غير الله ولم يلتفت إلى ما سواه زدنا في رزقه فآتيناه صفاتنا ومحونا عنه صفاته، فعلمناه من لدنا علماً وأقدرناه بقدرتنا، كما قال تعالى: " لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به " ، الحديث. { فهو يُنْفِق منه سرّاً وجهراً } يُنْفق من النعم الباطنة كالعلم والحكمة سرّاً، ومن الظاهرة جهراً، أو ينفق من كلتيهما سرّاً كالذي يصل إلى الناس من غير تسببه لوصوله ظاهراً وهو في الحقيقة منه وصل لأنه حينئذ واسطة الوجود الإلهي ووكيل حضرته وجهراً كالذي يتسبب هو بنفسه ظاهراً لوصوله { هل يستوون } استفهام بطريق الإنكار وكذا المشرك كالأبكم الذي لم يكن له استعداد النطق في الخلقة لأنه ما استعدّ للإدراك والعقل الذي هو خاصية الإنسان، فيدرك وجوب وجود الحق تعالى وكماله وإمكان الغير ونقصانه فيتبرأ عن غيره ويلوذ به عن حول نفسه وغيره وقوّتهما.

السابقالتالي
2