الرئيسية - التفاسير


* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }

قوله تعالى { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } فى هذه الأية اشارة عجيبة وهو انه تعالى اذا اراد خلق الجن والانس ابرز من عيون الربوبية عينا فاوجدهم برؤية العين فلما عكس عليهم سنا تنزيهه باشر ذلك سنا وجودهم فى ايجادهم تلطفوا بلطفه واستلذوا تلك المباشرة وفرحوا بوجدانها وسكروا بحلاوتها فكادوا ان يدعوا الربوبية وذلك سر النفس التى ستره فى النفس الامارة وذلك ظهر الفراعنة فادعوا الربوبية لغلبتها على هواهم ومن لم يغلب عليه ذلك لم يدع ولكن ذلك السر مخفى فى نفسه فلما علم الحق منهم ذلك حذرهم منه بقوله وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون اعلمهم ان ما هو عليهم كسوة الربوبية العارية لهم فلما ارتفعت الكسوة بقوافى رق عبودية الخالق الفرد المنزه عن مباشرة الخليقة اى لا تظنوا أنها لكم فذلك لى حقيقة ازلية الى ابد الابد كيف لا يكونون عابديه وهم قبضة عزته تكونوا وما يجرى عليهم بغير اختيارهم وهم بذلك مجبرون فاذا صحت عبوديتهم لان حركاتهم وسكناهم تقع على وفق مشيئته الازلية فذلك منهم عين العبودية اذ لا ارادة لهم فى حركاتهم وسكناتهم ودخولهم وخروجهم وانفاسهم وخواطرهم فما يظهر منهم فهو محض ارادته القديمة ما اراد منهم فى الازل فيكون منهم يظهر وهذا عين العبودية اذ قامت بمشيئته الكائنات والحركات والسكنات لا بذواتها فمن عرف نفسه بالعبودية فقد عرف ربه بالربوبية ثم بعد ذلك لا يكون منهم نفس ولا حركة الا ويكون ساقطا فى مشاهد ربوبيته فبقى الحق هناك ولم يبق العبد فى البين قال الله سبحانه كل شئ هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون يا فهم إذا امر لسان الازل يكون الشئ فتكون بأمره واذا ناداه من بطنان الازل ودعاه من عيب العدم كيف لا يجيب المكون وهو تعالى سابق بعلمه فى الازل في وجود ذلك المكون فاذا اجابة المكون للمكون بكل ما دعاه اما مستحسنا فى الظاهر واما مستقبحا فان استقباحه واستحسانه يكون بالاضافة الى الخلق والا فى عين المشية كلها مستحسن تكون محض العبودية لربوبية الحق وان خرج فى لباس المخالفة من حيث الرسوم ومن عرف ما ذكرنا من عين التوحيد قد سقط عن عينه جهد الجاهدين وتكلف السالكين وتحير فى قبضة الجبروت واستغرق فى بحار الملكوت لا يكون منه نفس الا ويخرج بشرط الرضا ولا يتحرك الا بوفق الوفاء ولا ينظر الا بحقيقة الصفا قال جعفر الا ليعرفوني ثم ليعبدوني على بساط المعرفة ليتبرؤوا من الرياء والسمعة وقال ابن عطا الا ليعرفونى ولا يعرفه حقيقة من وصفه بما لا يليق به قال الواحدي مذهب اهل المعانى فى ذلك الا ليخضعوا الى ويتذللوا ومعنى العبادة فى اللغة الذل والانقياد وكل مخلوق من الجن والانس خاضع لقضاء الله مذلل بمشيته خلقه على ما اراد ورزقه كما قضى لا يملك احد لنفسه خروجا عما خلق عليه.