الرئيسية - التفاسير


* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

قوله تعالى { فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } ان الله تعالى وبخ المفلسين من اهل الردة بان ليس لهم فى محبة الله نصيب بارتدادهم عن الاسلام اخبر انه يجئ بقوم ان الله سبحانه قد احبهم فى الازل وهم بمحبته يحبونه وهم يوافقون النبى صلى الله عليه وآله وأصحابه بشرط المحبة لأن من شرط المحبة الموافقة والطاعة وبين ان من لم يكن مطيعا لم محبا قال تعالىقُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } وفى الأية ذكر شرف الصحابة والتابعين من بعدهم وبين تعالى أن المحبة من خواص صفته الأزلية لأنه كان بذاته يحب أحبائه وكان ذاته موصوفاً بمحبته الأزلية كما أنه تعالى يحب الأولياء بذاته وصفاته فهم يحبون الله بذاتهم وصفاتهم من جيمع الوجوه لان مصدر محبة القدم وليس هناك فعل ومحبة العباد مصدرها قلوبهم وليس هناك فعل واصل المحبة وقع بغير العلة لأن الالاء والنعماء والافعال والحركات كان سبحانه احبهم بعلمه فى الازل قبلى ايجادهم باصطفائية فكأنه أحب نفسه لأن كونهم لم يكن الا بكون وجوده ووجوده سبب وجودهم وهو تعالى أحب فعله ومرجع فعل صفته فكأنه أحب صفته ومرجع صفته ذاته فكأنه احب ذاته لم يكن الغير فى البين فكان هو المحب وهو المحبوب وصفته المحبة وهم يحبونه بتجلى الصفة فى قلوبهم وهو مباشرة نور محبته فى فؤادهم فلما تكحلت عيون أحبائهم بنور محبته فطابت مصدر اصل الصفة فوجدت مشاهدة الازل عياناً بلا حجاب فأحبتها بالمحبة الأصلية التى لا تتحول من مصرف الاصل أبداً فاذا كان كذلك فالمحب والمحبوب والمحبة فى عين الجمع واحد وهذا عبرة قوله سبحانه بلسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم حيث اخبر عن المحب المتحد المتصف بصفاته قال فى اثناء الحديث " فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ولساناً ويداً " وفى هذا المعنى أنشد الحسين بن منصور فقال
أنا اهوى ومن اهوى انا   نحن روحان حللنا بدنا
فاذا بصرتنى ابصرته   واذا بصرته أبصرتنا
قال الواسطى فى هذه: كما انه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته لان الهاء راجعة الى الذات دون النعوت والصفات قال السلامى بلى حبه لهم احبوه كذلك ذكرهم يفصل ذكره لهم ذكروه وقال الحب شرطه ان يلحقه سكرات المحبة فاذا لم يكن كذلك لم يكن فيه حقيقة. وقال يوسف بن الحسين: المحبة الايثار وأنشد فى معناه الحسين بن احمد الرازى وأنشد أبو على الرودبارى لنفسه
سامرت صفو صبابتى اشجانها   حرق الهوى وغليلة نيرانها
وسألت من فرط الصبابة قيل لى   ايثار حبك قلت خذ بعنانها
كل له وبه ومنه فاين لى   وصف فأوثره فطاح لسانها
فالمحبة ارتياح الذات بمشاهدة الذات وقيل: المحبة هى ان يصير ذات المحب صفة المحبوب قال الواسطى بطل ذلك يذكر حبه لهم بقوله { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وانى يقع صفات المعلولة من الصفات الأزلى الابدى وقد وقع إليّ اشارة محبة الله وقع فى الازل ولم يكن هناك وجود الاحباء لانه تعالى لم يكن محتاجاً الى رؤيتهم محبته إياهم ولكن لم يكن الأحباء إلا بعد ان رأوا مشاهدته فثبتت المشاهدة قبل المحبة وثبتت المحبة بعد المشاهدة والمحبة مشاهدة من قبل المحبين لم تكن محبة حقيقة لان محبة الآلاء والنعماء وقعت معلولة ولذلك لم يرتدوا عن دينهم الذى هو المحبة لأن من رآه عشقه وكيف يرجع عنه من كان مسلوب القلب بعشقه وجماله ثم زاد الله فى وصفهم بذكره تواضعهم لاحبائه وغلبتهم على اعدائه بقوله تعالى { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } وذكر بدل وجودهم فى طريق محبته بنعت جهادهم اعداءه بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وقلة مبالاتهم فى الله إلى ملامة الايمين بقوله تعالى { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ } وعلق جميل اوصافهم بفضله وسعة رحمته كما انه علق محبتهم بمحبته بقوله تعالى { ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } قال ابو بكر الوراق الجهاد ثلاثة جهاد مع نفسك وجهاد مع عدوك وجهاد مع قلبك والجهاد فى سبيل الله هو مجاهدة القلب لئلا يتمكن منه الغفلة بحال وجهاد النفس ان لا تفتر عن الطاعة بحال وجهاد الشيطان ان لا يجد منك فرصة فياخذ بحظه منك.