الرئيسية - التفاسير


* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }

قوله تعالى { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } ان الله تعالى جعل فى بحار القدم والبقاء السواقى لورود الأرواح النقية ومشارب للقلوب العارفة به وسواقى العقول الصادرة من نوره ولكل واحد منها شريعة من تلك البحار فلبعض شرعة العلم ولبعض شرعة القدرة ولبعض شرعة الصمدية ولبعض شرعة الحكمة ولبعض شرعة الكلام والخطاب ولبعض شرعة المحبة والمعرفة ولبعض شرعة العظمة والكبرياء ثم جعل لها منهاجاً من الصفات الى الذات ومن الذات الى الصفات ومن الصفات الى الصفات ومن الذات إلى الذات ومن الاسماء إلى النعوت ومن النعوت إلى الاسماء ومن الاسماء الى الافعال ليعرفه كل واحد بقدر ذوقه وشربه وطريقه وجعل بينهم تباعداً وتقارنا قال تعالىقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } فمن وافق شربه شرب صاحبه لم يقع بينهما الخلاف فى الشرعة والمنهاج ومن لم يكن شربه موافقا لشرب صاحبه لم يعرف احدهما مكان الآخر ويكون بينهما نزاع وذلك من غيرة الله عليهم وعلى نفسه لئلا يركن بعضهم بعضا ولا يطلع عليه سواه ألا ترى كيف وصف مزاج الأبرار من مزاج المقربين وفرق بينهم بالمشارب والسواقى وكيف خص بعضاً بالرحيق المختوم بقولهيُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ } وذلك رحمة منه على الجمهور ولتفاوت فوائد استنباط علوم الغيبية من مراد الله قال عليه السلام " اختلاف العلماء رحمة " ولاختيارهم فى طريقهم بحقائق العبودية وعرفان الربوبية وهذا قوله تعالى { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } يعنى شيوخاً وأكابر بغير المريدين والسالكين { وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم } من المقامات الشريفة والأحوال السنية كيف يخرجون من دعواكم بحقيقة عبوديتى ويخرجون جواهر العلوم من كتابى وحكمتى ثم خاطبهم جميعاً بقوله تعالى { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } عرفهم مكان تقصيرهم اى ما أدركتم منى فى جنب ما عندى لكم كقطرة فى بحر سارعوا الى خيرات مشاهداتى وجميل عطياتى ثم افردهم مما وجدوا الى عين جلاله بقوله تعالى { إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } اى اليه مرجع افتقاركم من مقاماتكم اليه لزيادة القربة والمعرفة وهناك يظهر تفاضل درجاتكم وما غاب عنكم من حقائق اسرارى ونوادر لطائفى وهذا معنى قوله تعالى { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } قال بعضهم فى قوله { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } كل قد فتح له طريق الى الله فمن استقام على الطريقة وصل الى الله ومن زاغ وقع فى سبيل الشيطان وضل عن سواء السبيل وقال ابو يزيد البسطامى الطريق الى الله بعدد الخلق ولكن السعيد من هدى الى طريق من تلك الطرق قال الاستاذ فى قوله { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ } أي ولو شاء الله لسوى مراتبكم ولكن غاير بينكم ابتلاءً وفضل بعضكم على بعض امتحاناً وقال فى قوله { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } مسارعة كل واحد على ما يليق بوقته فالعابدون بتقدمهم من حيث الأوراد والعارفون بهممهم من حيث المواجيد ويقال استباق الزاهدين برفع الدنيا واستباق العابدين بقطع الهوى واستباق العارفين بنفى المنى واستباق الموحدين بترك الورى ونسيان الدنيا والعقبى.