الرئيسية - التفاسير


* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } * { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلأَنْعَٰمِ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ ٱللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَٰنَ وَلِيّاً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } * { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً }

قوله تعالى { لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } لما التصق رغام الاياس فى انف ابليس من اغواء الاولياء والمخلصين حيث يئس فى سماع خطاب الحق جل سطانه فى وصف احسانه من جميع العباد بقولهلَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } راى بعد ذلك فى حواشى ساحات قلوبهم مجارى ضيقة تجرى فيها للنفس الامارة وهواجسها قال لما أيست من انقطاع المريدين عنه { لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } يعنى التقط قطيعات من هواهم ونفوسهم نصيب وسواسى أو وسوسهم من وراء القاف لانى لو دنوت منهم بالمباشرة احترق بنيران محبتهم وذلك النصيب لما سلبه سارق القهر من حرمة مراقبتهم تداركوه بالندم ورموه بسهام الذكر من قوس الفكر فخرجوه حومة التلاوة ونشاب الاستعاذة ثم رأوه بعد ذلك أسيراً فى سجن جوعهم ومجاهدتهم صحة ذلك قوله تعالىإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } ابصروه خائبا خاسرا محترقا وهم بعد ذلك ينزلون اعالى منازل القرب وزادوهم دنوا لدنو قال عليه الصلاة والسلام " أيس الشيطان ان يعبده المصلون فى جزيرة العرب ولكن فى التحريش بينهم " وقال فى موضع: " ألا ان الشيطان قد أيس ان يعبد فى بلادكم ابدا ولكن ستكون لكم طاعة فيما تحتقرون من اعمالكم فسيرضى به " اشار عليه السلام والله اعلم الى ذلك النصيب والحمد لله الذى رد امره الى الوسوسة ولو كان له قدرة فى اخذ النصيب لكان قادراً فيما بقى ولكن راى الله فيهم مواضع الامتحان لزيادة عرفانهم وابتلائهم بالقهريات واللطفيات فعلم الملعون ان له فى منازل الامتحان مساغا لوسوسته لانه خلق من عالم القهر وفى كل موضع يرى خيول القهر يدخل فيما بينها ليسرق شيئا من بيدر حبات الذكر حبة ليحترق بها حسدا على المخلصين ودخوله معها الاهلية بينه وبينها فيطلب لطيفة معدنه ومثاله مع العارفين انه كالفراش والعارف كالشمع المنور فيدور حوله بالوسوسة فيقع فيه فيحترق به الا ترى كيف دار حول ادم صفى لله صلوات الله عليه فاحترق بنيران لعنة الابدية وكان وسوسته لآدم سبب زيادة زلته وقربته واجتبائيته واصطفائيته قال تعالىثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ } وهذا إعلام من الله سبحانه للخلق هكذا يكون شأن من يؤذى وليه وحبيبه من احبائه واصفيائه قال الواسطى فقال له ان كان اليك شئ من القدرة والقوة فاغوِ احداً سوى ما جعل له من النصيب المفروض عند ذلك يظهر عجزه وضعفه وقال بعضهم فى هذه الاية لترقى اعينهم طاعتهم واغلق دونهم ابواب الانابة وروية الفضل وقد وقع لى شئ اخف ان ذلك النصيب التفات العاشق فى طلب جمال الحق الى عالم المستحسنات لان فيها ما يليق بالنفس الامارة حين تلطف فى جوار الروح الناطقة العاشقة فاخذت الروح من الوجوه الحسان لطف معدن الحسن وبقى للنفس الامارة حظ من حظوظ الشهوات قال ابو سعيد الحراز رايت ابليس فى منامى فقلت له هل لك يد على الصوفية فقال لا ومضى ثم التفت وقال لى عندهم لطيفة وهى نظرهم الى وجوه الاحداث وايضا نصيب الملعون منهم فرحهم بحالهم ووقوفهم بلذات مواعيدهم والقاء مخائيله فى مكاشفاتهم وذلك النصيب يقع على كُثُر من مقاماتهم منها ان يعدهم الى بلوغ مقام الكرامات بغير استعمال اداب الطريق ومتابعة المشايخ وموافقة الأسوة والسنة وهذا له في المريدين ومنها ان يمنيهم بطول العمر ونيل الدرجات فى شيخوخيتهم بان تقاعدوا عن استعمال رسوم المعرفة وكل هذا اغروا الملعون ولا يشترى غرور الا من فر من امانة النفس فى طريق الله وكل هذا معنى قوله تعالى فى وصفه { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } والغرور وله للمريدين انك قد بلغت منتهى المقامات واخر الدرجات فاسكن من مجاهدتك ورياضتك واجلس فى مجلس الشيوخ وتكلم بكلامهم انت اعظم منهم حتى يدور حولك المريدون واراد بذلك الغرور ان يوقعه الى حب الجاه والرياسة فيهلك فيها كهؤلاء المطرودين فى زماننا طهر الله وجه الارض منهم ومن امثالهم قال بعضهم يعدهم طول العمر والموت غايتهم ويمنيهم الغنى والفقر سبيلهم { وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } ما يقربهم من الدنيا ويبعدهم عن الاخرة.