الرئيسية - التفاسير


* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } * { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } * { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ عَنِ ٱلصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ } * { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } * { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِٱلْعَذَابِ فَمَا ٱسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ }

قوله تعالى { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } افهم ان الله سبحانه البس وصف قهره النفوس الأبية فاستكبرت عند مباشرتها القهر الجبروتى وخرجت بنعت الكبرياء الى ميادين الربوبية فالقى الحق سلطان قدم عزمه عليها وكسر قرونها بطاعته ولولا انه تعالى حبسها فى ملازمة قهره لخرجت الارض بفسادها وتكبرها ولم يرتفع طاعة المطيعين الى السماء وكيف يكون الصانع القديم مراد النفوس الحدثية اذ جلاله كان منزها عن محل ارادة كل مريد وحلول كل حادث اعطاها شرف مباشرة ربوبيته فابت بحظوظها عن رويتها لذلك قال سبحانه { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } بذكره الازلى ذكرهم بالعبودية وعرفهم بالطاعة فهم عن شرف الطاعة معرضون وايضا تجلى الحق فى لباس القرآن لاهل العرفان ولم تبصره ابصار اهل الطغيان قال الواسطى بل أتيناهم كاشفهم بالمعارف ثم بالوسائل ثم بالسكينة ثم بالبصائر فلما عاينوا الحق بالحق ازدادوا همة وارادة قال بعضهم لولا ان الله تعالى امر بمخالفة النفوس ومباينتها لا نتبع الخلق ومرادات النفوس ولو فعلوا ذلك لضلوا عن طريق العبودية وتركوا اوامر الله واعرضوا عن طاعته ولزموا مخالفته ألا ترى الله يقول { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ } الآية ثم بين سبحانه ان حبيبه صلوات الله عليه يدعوهم الى مقام المشاهدة بقوله { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } الصراط المستقيم ما وضحه انوار جماله ومشاهدته وهو طريق معرفته فى قلوب الصديقين لارواح القدسية وذلك الطريق منتهاها بالمحبة وبدايتها الاسوة والمتابعة بقوله ان كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله قال ابن عطاء انك لتحملهم على مسالك الوصول وليس كل احد يصلح لذلك السلوك ولا يوفق له الا الخاصة وهم الذين استقاموا لله مع الله ولم يطلبوا منه سواه ولم يروا الا انفسهم درجة ولا مقاما قال بعضهم أي الاقبال على الله والاعراض عمن سواه ثم بين سبحانه حال المحرومين عن هذه الطريقة المباركة والايمان بالغيب والآخرة وصفهم بالضلالة عن طريق الصواب بقوله { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ عَنِ ٱلصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ } اى الذين لا يشاهدون بقلوبهم انوار الغيب لناكبون عن متابعتك يا محمد قال ابو بكر الوراق من لم يهتم لامر معاده ومنقلبه وما يظهر عليه فى الملأ الاعلى والمشهد الاعظم فهو ضال عن طريقته غير متبع لرشده واخر منه حالا من يهتم لما جرى له فى السبق من ربه لان هذا المصدر فرع تلك السابقة قال الله { إِنَّ ٱلَّذِينَ } الآية ثم بين ان لو كشف لهم حجب الهجران ورأوا جمال الرحمٰن لادعوا من سكرهم فى جمال الانانية بقوله { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } لو خلصهم عن درك الامتحان وكشف عنهم ضر الحرمان للجوا فى دعاويهم العظيمة التى تفسد الرسوم وبقوا فى طغيان دعاويهم قال ابن عطا الرحمة من الله على الارواح والمشاهدة ورحمته على الاسرار للمراقبة وحرمته على القلوب المعرفة وحرمته على الابدان آثار الخدمة عليها على سبيل السنة وقال ابو بكر بن طاهر كشف الضر هو الخلاص من امانى النفس وطول الامل وطلب الرياسة والعلو وحب الدنيا فان هذا كله مما يضر بالمومن قال الواسطى للعلم طغيان وهو تفاخر به وللمال طغيان وهو البخل وللعمل والعادة طغيان وهو الرياء والمشاهدة وللنفس طغيان وهو اتباع شهواتها ثم بين انه تعالى ابتلاهم بعذاب الفرقة ولو يتحسروا بذلك ما ارادوا الرجوع اليه بنعت التضرع بقوله { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِٱلْعَذَابِ فَمَا ٱسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } افرد ارواحهم فى مبادى العهد بشهود نور جماله لها وخطابه معها فلما وصلت الاشباح بتلاها بحجاب النفوس والشياطين وثم ترجع الى طلب معادنها فشكى الله سبحانه أخذها من حق معرفتها انها تقنى بمواراة الحجاب والخطاب بالعتاب وهذا وصفه بعض العارفين الذين هاموا فى اودية الكبرياء والعظمة ولا يجدون لذة الوصال والجمال عن صولة التوحيد فوقعوا فى بحار الاولية وباشروا بالجرأة ما يوجب العتاب فلم يلتفتوا الى مراعاة الرجوع لاستكبارهم بمقاماتهم العظيمة ولا يختمون على فوائت حظوظهم المشاهدة يا ليت لو علموا خبايا مكره لتضرعوا واستكانوا حتى يكشف ما وراء احوالهم من عظائم غيوبات الصفات وعجايبات كشوف الذات التى لو شاهدوها لذابوا ساعة بنعت الفناء فى القدم ولتاهوا ساعة بنعت البقاء مع السكر والصحو فى الابد وافهم ان الله سبحانه اوقع المريدين فى موت الفوت فجاهدوا أنفسهم بانواع العبادات والرياضات ولو استعاذوا به واستعانوا لسهل عليهم طريق الرجوع اليه فاين هم من التضرع والبكاء وتعفير الوجوه بالتراب على فناء وحدانيته وجناب ديموميته وبهذا وصل الواصلون الى الله قال سهل ما اخلصوا لربهم فى العبودية ولا ذلوا بالوحدانية.