الرئيسية - التفاسير


* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ } * { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ } * { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } * { إِذْ تَمْشِيۤ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ ٱلْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ } * { وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي }

{ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ } بان البستك نور اصطناعى واصطفانى حين خرجت من العدم وذلك النور قوله { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } هذه خاصيّة عجيبة اصطفاه فى الازل لقبول وحيه ورسالته وسماع كلامه ورؤية مشاهدته فلما اراد ان يجعله مسقط نور جلاله وجماله البسه نور محبته الازلية السابقة للانبياء والمرسلين والصديقين حتى يكون بقوتها متحملا لحمل انوار صفاته وذاته فمن كل صفة عليه نور ونور المحبة علا على كل صفة ليكون مع هيبته وجلاله محبوب كل محب ومألوف كل اليف وبذلك النور يكون حسنا مستحسنا مليحا شريفا ظريفا فى عين الخلائق جميعا ولهكذا لحال كل محب للرحمن قال الواسطى فى قوله سؤلك سأل ربه ابتداء شرح صدره فجاز الاقتداء به للعوام دون الخواص لان الله اعلم بما فيه ابلاغ رسالته وأداء أمانته. ألا ترى الى قولهقَدْ أُوتِيتَ } الى قوله { مَرَّةً أُخْرَىٰ } فذكر ايام حداثته ثم رده الى اصله ثم رده من اصله الى اصل الاصل فقال { وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } فاضافه الى نفسه ثم اكد ذلك بقوله انى اصطفيتك على الناس والقيت عليك محبة منى قال السرى السقطى قدس الله روحه القى عليه لطفا من لطفه استجلب به قلوب عباده وقال ابن عطا القيت عليك محبة معى لك فمن راى فيك محبتى تلك احبك بحبي لك وقال فارس زينتك بملاحة من عندى حتى لا تصلح لغيري ويحبك كل من يرى تلك الملاحة فيك فقيل اليس يوسف اعطى شطر الحسن ولم يكن يستوجب المحبة فقال الحسن لا يوجب المحبة والملاحة توجب المحبة الا ترى النبى صلى الله عليه سلم كان عليه ملاحة ممزوجة بهيبته قال بعضهم غنج بعينك لا يراك احد إلا رق لك ومال اليك ولما خصه بكسوة نور محبته جعله محفوظا فى مقام الامتحان والبلاء لا ينقطع عنه انوار تلك الخاصية وكان فى مجمع حجر وصلة الحق يربيه بايدى الاعداء ليبين منته واصطفائيته كأنه خاطب لطف قهره { وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } اى لتكون مربّى فى مقام القهر بعين اللطف وهذا خاصية عجيبة قال الواسطي ما نجا نبي ولا ولي من محنته ولا سلم احد من مشقته وهذا معنى قوله ولتصنع على عينى قال ابن عطا ولتصنع على عينى انا مشاهد لك حافظ ارعيك بعينى ولا اسلم سياستك الى غيرى ليعلمه حسن العناية ثم ان الله سبحانه ذكر لموسى منته عليه بان انجاه من كيد العدو وارجاعه الى امه وبان لم ياخذه بجرم القتل بقوله { وَقَتَلْتَ نَفْساً } ان الله سبحانه اعلم الحقائق ان من اصطفاه الله فى الازل بشرائف المعرفة ولطائف الولاية لا يضر به المعصية ولا يزيله من مقام الاصطفائية مباشرة الكبيرة فالقى موسى فى البداية فى محنة المعصية كابنى آدم عليهما السلام ليكون التواضع مصحوباً له الى النهاية ويربيه بحقائق القهر كما يزينه بحقائق اللطف { فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ ٱلْغَمِّ } اى نجيناك من طريان العتاب منا على قلبك { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } اخلصناك من النظر الى غيرنا فى جميع انفساك والبسناك انوار لباس ربوبيتنا حتى عرفتنا بمعرفتنا وصرت فنون عجايب لطفنا فى العالم قال الواسطى القاه فى اعظم كبيرة حتى يوجده طعم الاصطفاء بقوله وقتلت نفسا وقال ابو الحارث الاولاسى فتناك بنا عما سوانا وقال ابن عطا فنجيناك بالبلاء طبخا حتى صلحت لبساط الانس وقال سهل افتينا نفسك الطبيعي وجعلناها حتى لا تامن من مكر الله ثم زاد وذكر المنة عليه بان جعل شيخه ومقدمه فى طريقته شعيبا عليه السلام بقوله { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ } لبثه عند شعيب بان رباه الله لصحبه المرسلين ليكون متخلقا بخلقه مهذبا فى أول الحضرة وهذا سنة الله للمريدين { ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ } اى على قدر زمان الارادة فاذا كنت كاملا جئت على قدر مقام المحبة ووطئت بقدم المحبة على بساط القربة بعد قدم الارادة فى مقام الخدمة جئت بما اصطفيناك فى القدم من العدم لا يتغير قدرك بتقليل بدو العناصر عن قدر اصطفائنا بعضهم قدرنا لك سبيل المعرفة وقتها فجئت على ذلك القدر ثم ذكر سبحانه اعظم منته عليه بقوله { وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } اى خمرت سرك بنور سرى وقلبك بنور نورى وعقلك بسنا قدسي وروحك بجمال وجهي والبستك نور محبتى وكسوتك كسوة ربوبيتى لتكون مشكاة انوار صفاتى وذاتى أتجلى من وجهك بالهيبة للعالمين وخصصتك بمخاطبتى وسماع كلامى فان في زمانك ليس فى العالم سواك محل وقوع نور تجلائي وكشوف اسرار سري ولتكون لنفسى خاصا بالمحبة والشوق والعشق لا لغيرى وانا غيور عليك لا يراك احد بعين المحبة الا ابتليته ولا ترى احدا بعين المحبة الا ابتليتك حتى لا يكون فيك نصيب احد غيرى قال الخراز فى قوله { وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } فمن اين والى اين ومنه واليه فله وبه وفنى فنائه لبقاء بقائه بحقيقة فنائه وقال فارس أخلصناك حتى لا تصلح لغيرى وقال ابو سعيد الخراز فى بعض كتبه غير ان اولياء الله رهائن الله فى اشباحهم قد خبأهم واخفاهم فى انفسهم من انفسهم لنفسه وهذا مقام الاصطناع الذى قال الله لموسى { وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } وقال سهل مقروني بالتجريد لا يشغلك منى شئ.