الرئيسية - التفاسير


* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ }

قوله تعالى { إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ } الآية امتحنهم بمجاهدة نفوسهم قبل محاربة عدوهم لينظر كيف يكون خلوصهم من جهاد الاكبر قبل شروعهم فى جهاد الاصغر لان من يعجز عن مجاهدة نفسه لا يصلح لمحاربة غيره وتصديق ذلك قوله تعالى فى حق المبتلين الذين تجاوزوا عن الحد الذى سنن لهم وشربوا من النهر اكثر ما امرهم { قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } والذين اخرجوا عن محاربة نفوسهم وصرعوها فى ميادين الذل والاهانة فيصلحون لجهاد الكفار كما قال الله تعالى { قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } وهذا مثل ضربه الله للدنيا ومن يطلبها لان الدنيا نهر الشهوات اجرى الله تعالى بين الخلائق لامتحان العباد ليضل بها قوما ويهدى بها قوما من شرب منها بقدر الضرورة لقوة العبادة يعبرها بشرط الانفراد فانه من اهل الايقان والعرفان ويهدى الى مشاهدة الرحمٰن ومن شرب منها بفرط الحرص لامغاء الغفلة قوة للمعصية يضل عن سبيل الرشاد ولا يملأ جوفه منها ابدا حتى يدخل الى النيران وضرب الله تعالى ايضا هذا المثل فى قصتهم لينظر الناظر فيه بعين الاعتبار والاقتباس الانوار { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ } الطالوت هٰهنا الروح وهى ملك الباطن ومثل داود نبي الله عليه السلام العقل وجنوده القلب وملك الهام والعلم والفهم والادراك والخواص ومثل جالوت عدوا الله الشيطان وجنده خيل الخيال واعوان الشهوات فامر الله تعالى الروح بالمحاربة معه اختبار النفس الامارة اى فلما فصلت الروح بجنودها { قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ } يعنى نهر الشهوة الذي يشرب منه النفس بكاس الغلفة واضافت اليهم الشرب لان الروح مقدمة عن رجس البشرية { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } اى ليس من عالم الروحنيات وليس من اهل المكاشفة الصفات { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ } اى من نور القدس وعالم الانس { إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ } اى القلب والحواس والنفس يغترفون بقدر الترفة حتى لم يحترقوا فى جوار الروح بنيران المحبة والمواجيد التي يحصل منه نور المعرفة { فَشَرِبُواْ مِنْهُ } يعنى النفس واعوانها لانهم من ملكوت الارض لاجل ذلك مالوا الى طعمة الطبيعة { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } اى العقل والملك لانهما من ملكوت السماء وليس لها الا لذة التربية اما شرب القلب قدر الكفاية لانه ممزوج بخلاصة الجسم { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } اى الروح والعقل والملك والقلب والحواس { قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ } اى بقول اعيان الروح الذين يوقنون كشف العيان بعد مجاهدة الشيطان { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ } كم من فئة قليلة بالعدد معها نور اليقين غلبت فئة كثيرة التى ليس معها النصر من عند الله { وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } الذين وقفوا على مراد الحق بنعت الرضا والتسليم وروية كرسه القديم وتسليمهم من مباشرتهم حظ مشاهدة الحق.