الرئيسية - التفاسير


* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } * { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } * { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ }

قوله تعالى { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } اذا نطق القهر القديم على لسان النفس الامارة التى هى الشجرة الخبيثة نطق لسانها بالهواجسات التى تورث كلامات الوسواسية الشيطانية وتلك الكلمات اصل جميع الأهواء المختلفة التى مآلها ظلمة البعد وغىّ الشهوات وخيال النزهات وتلك الشجرة الخبيثة غرسها فى قعر الطبيعة ايدى القهريات وتسقيها مياه الضلالات وعروقها اصل النفاق وساقها اصل الكفر واغصانها الاهواء المختلفة واوراقها الاوهام والظنون الفاسدة وثمارها الشك والشرك والكسل والبخل والبطر والنشاط والخيال والمحال والكذب والزور والبهتان والغيبة والنميمة والحرص والحسد والشهوة والثناء والبغضاء والغضب وجميع المساوئ النفسانية والشيطانية وفى كل اوان واوقات وانفاس تعطى ثمارها والصادق المحب الوافق يقصد أن يقلعها ويقطعها من اصلها بفاس التوحيد والحرفة والمحبة واذا كان مؤيداً سهل الله عليه قطعها من اصلها لانها عارضة عارية لامتحان القلب الذى هو منظر نور تجلى الحق وينسى قطعها لانها ليست ثابتة بالحقيقة كشجر الايمان والتوحيد قال الله تعالى { ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } قال محمد بن على الترمذى الشجرة الخبيثة اللسان، ما لم يقطعها المؤمن بسيوف الخوف فانها تثمر ابدا الكلمات الخبيثة وقال بعضهم الشجرة الخبيثة النفاق وهى التى لا تقر قرارا حتى تهوى بصاحبها فى النار قال ابن عطا الشجرة الخبيثة الغيبة والبهتان وهما يفتحان على الانسان باب الكذب والفجور وقال جعفر الشجرة الخبيثة الشهوات وارضها النفوس وماؤها الازل واوراقها الكسل وثمارها المعاصى وغاياتها النار ثم وصف امتنانه على اهل التوحيد بتسديد ايمانهم وتثبيت توحيدهم وتحقيق معرفتهم واستقامة احوالهم بتوليته ورعايته لهم فى الدنيا والاخرة بقوله { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ } القول الثابت قول الحق جل جلاله فى الازل حيث حكم فى نفسه بتوحيد الموحدين ومعرفة العارفين ومحبة المحبين وايقان الموقنين وايمان المؤمنين واسلام المسلمين وقوله منزه عن التبدل والتغير والاضطراب فقوله الحق الباقى بوصف الازل الى الابد واذا اصطفاهم بذلك القول لا يزيله عوارض البشريات وغلبات الشهوات وفنون الامتحانات لانه قائم بالذات والصفات وهؤلاء فى ظل العنايات محروسون بلطفه عن قهره فى الدنيا والاخرة المعرفة لا تتغير بتغير الزمان ولا بتبدل المكان ولا بنزول الامتحان ولا بتغاير الملوان ولا بشئ من الحدثان وثباته للمؤمن العارف منه استقامته به له فى طريق مراده وذلك من مزيد كشوف جماله وجلاله لهم بنعت اطوار المواجيد من بحار قربه حين هجم انوار سبحات وجهه فى اسرار قلوبهم وفيه اشارة لطيفة ان المعشوق يقلب اقمصة الربوبية فى كل لحظة للعارف الصادق الف مرات فى الدنيا فاذا قال ادركته اوقعه فى بحر نكرته فاذا تحير وكاد لطمات بحر النكرة ان تغرقه تحت اسافل القهريات يدركه فيض الشفقة ويريه جماله فى ظلمات النكرة وكدورة الطبيعة البشرية بالبديهة ويخلصه من غبار الامتحان وكذلك دابه فى مواقف القيامة حتى يريه بالنكرة فى المعرفة وبالمعرفة فى النكرة حتى يلبسه انوار ربوبيته ويخلّصه من مقام امتحانه فاذا صار متصفا بصفاته فاز من ضرر الامتحان وهذا حاصل فى الدنيا والاخرة لاهل المعرفة قال الواسطى فى قوله { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } على مقدار المواجيد يكون المخاوف والامن ولم ينزع من احد الخوف ولا انفلت منه احد لحظة وما من احد يسعى الا عقبى سعيه وهو الذى لا يخاف عقباها فمن يثبته بالقول الثابت اسقط عنه ذلك المخاوف وقال ايضا الايمان ايمانان ايمان حقيقة بضياء الروح وايمان محبة بظل الروح لذلك استثنى من استثنى فى ايمانه كيف لا يأمنه العبد وهو لا يخلف الوعد ثم وصف كيف قهر فى القدم الظالمين باضلاله اياهم بنفس المشيئة والارادة الازلية بقوله { وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ } اختار اهل صفوته بمحبته ومعرفته ومشاهدته والبسهم حلل عنايته وقربهم منه به وبعد المبعدين وطردهم بقهره عن باب لطفه فعل ما شاء باهل العناية والسعادة ويفعل ما يشاء باهل البعد ببعادهم عن قربه ليس عليه فى ابرار حكمه نقص فى ردهم وقبولهم قال بعضهم الخلق كلهم مجبورون تحت القدرة مقهورون على بساط الجبروت ليس اليهم من امورهم شئ ممنوعون عما يريدون يقضى عليهم ما يكرهون وهذا من اثار العبودية والله تبارك وتعالى مدبر الامور ومنشئها انشاها على ارادته وابدعها على مشيئته لا ناقض لما ابرم ولا فعال على الحقيقة فعله والكون صنعه لا علة لفعله ولا بصنعه قال الشبلى فى قوله { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } اذا اكرمه بالتثبيت كشف واعطى كمال المعرفة ومقال الصدق والتوكل ومحض الاخلاص وحقائق اليقين وكوشف عن مقامات الولاية التى لا نهاية لها وذلك وصف من ثبته وقال الصادق ثبتهم فى الحياة الدنيا على الايمان وثبتهم فى الاخرة على صدق جواب الرحمٰن ثم شكا عن المغيرين نعمته عليهم بقلة الشكر فى نعمته وقلة الصبر فى مجنته بقوله { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ كُفْراً } نعمة الله هٰهنا العقل والعلم والاستعداد وجمال الصورة والهيئة بدلوا العقل بالعبادة وبدلوا العلم بالجهل وبدّلوا استعداد قبول الايمان بقبول الشرك والشك من النفس والشيطان وبدّلوا جمال الصورة بقبح المعاصى ومباشرة الشهوات ويا ليت تلك النعمة لو ساعدها العناية الازلية وكيف يتبدل محل العناية ولو غاص المنعم عليه فى بحر الكفر والمعاصى الف مرّة قال ابو عثمان اجهل الخلق بنعمة الله من استعملها فى انواع المعاصى ولم يقم بشكرها فى ان يعمل بها فى طاعة الله.