الرئيسية - التفاسير


* تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى


{ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } * { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } * { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ } * { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ }

قوله تعالى { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } اوى اليه ابويه لانهما ذاقا طعم حرارة الفراق فخصهما من بينهم بوصاله وتدانيه يوم التلاقى هناك يتبين تباين منازل الصديقين فى المحبة ومراتب المحبين فى الوصلة قال الاستاذ اشتركوا فى الدخول ولكن تباينوا فى الايواء فانفرد الابوان به لبعدهما من الجفاء كذلك غدا اذا وصلوا الى الغفران يشتركون فيه وفى وجود الجنان ولكن يتباينون فى بساط القربة فيختص به اصل الصفاء دون من اتصف اليوم بالالتواء ولما بان حالهما فى الايواء ظهر قدرها فى بساط المؤانسة ومجلس القربة بقوله { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ } قال ابن عطاء رفع من محلهم بمقدار حزنهم كان عليه واسفهم ولم يرفع من اخوته لسرورهم بائتلاقه وكذبهم عليه بانه ان يسرق فقد سرق اخ له من قبل قال محمد بن على من رفع من مريد فوق ما يستحقه افسد عليه بذلك ارادته لان بعض الصحابة ذكر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال امرنا ان ننزل الناس منازلهم ورفع يوسف ابويه على العرش ولم يرفع اخوته انزل كل واحد منهم حيث يستحق من منزلته قوله تعالى { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } صحت هٱهنا بيان المكاشفة واوائل المشاهدة التى جرت ذكرها بقولهإِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } لما بان سطوع انوار عزة الله على الصديق العزيز علا هيبته عليهم وعاينوا ما عاينت الملائكة فى ادم فخروا له سجدا بغير اختيارهم لانه كان كعبة الله التى فيه ايات بينات انوار مشاهداته وسنا تجليه وظهور جلاله من الباس قدرته مقام ابراهيم حين قال هذا ربى راى ذلك فى ايات ملكوت السماء وراوا ذلك فى ايات ملكوت الارض لو راى الملك واهل مصر فيه ما راى يعقوب وبنوه لخرّوا له سجدا كما قال القائل
لو يسمعون لما سمعت حديثها   خروا لعزة ركعا وسجودا
فلما اقترت المكاشفة بالمعاينة { وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ } اظهر على يعقوب كمال علمه بتاويل احاديث المكاشفات والايات المنامات { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } اى بيانا بينا ليس فيه معارضة النفس ثم اثنى على الله سبحانه لما اولاه من نعمه الرفيعة وكراماته الساطعة بقوله { وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ } اى اخرجنى من سجن بلاء النفس وخطوات الشيطان وايضا اطلقنى من اسرار الارادة والمجاهدة والرياضة والامتحان الى سعة بساط الرضوان والمعرفة والغفران والمشاهدة والايقان ذكر السجن لان هناك موضع التهمة اى اخرجنى بكرمه من سجن التهمة بان اظهر طهارتى من الزلة وايضا بدأ بذكر السجن وما جرى لاجله لئلا يحزن قلوب اخوته وهذا من شرائط كرم المكرمين اسقط خجلتهم حين اظهر ما جرى عليه من الهمة وطول لبثه فى السجن من التفاته الى غير الله من وقت امتحانه ثم ذكر منازلهم وما فضل على ابويه واخوته بقوله { وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ } اى من بوادى الفراق الى منازل الوصال جاء بكم من منازل التفرقة الى عين الجمع ومن محل التلوين الى محل التمكين ثم رفع بكرمه الجرم عن اخوته واستعمل الادب حين لم يذكر ذكر القدر تنزيها لقدر الله وقدره من مباشرة العلة بقوله { أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ } اى ليس من طبائع الاولياء حركات الاعداء انما كان شيئا طاويا بغير اختيارنا اغرى الشيطان بالنزغات بيننا لزيادة درجتنا وصفاء مودتنا ثم وصف الله سبحانه باللطف والرحمة والعلم والحكمة بقوله { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } لطيف حيث جعلنى لطيفا فى حسن وجهى عليم بنيتى فى عفو اخوتى وقبول عذرهم وايضا عليم بخلق صورتى حكيم حيث خصنى بحكمة النبوة والرسالة قال جعفر الصادق قال يوسف احسن بى اذ اخرجنى من السجن ولم يقل اخرجنى من الجب وهو اصعب قال لانه لم يرد مواجهة اخوته بانكم جفوتمونى والقيتمونى فى الجب بعد ان قال لا تثريب عليكم اليوم وقال ابن عطاء الحكمة ان السجن كان اختياره بقوله رب السجن احب إليّ مما يدعوننى اليه والحب موضع اضطرار ولم يكن له فيه شئ وفى الاختيار أفات شكر الله حين خلصه من فتنة اختياره لنفسه وعلم ان ما اختياره الحق كان فيه الخيرة وخاف من اختياره لنفسه لما نجاه الله من ذلك شكره وقال الواسطى قد احسن بى اذا خرجنى من السجن بعد ان عمدت فيه سواه بقوله لصاحب السجن اذكرنى عند ربك وقال جعفر فى قوله ان ربى لطيف لما يشاء اوقف عباده تحت مشيئته ان شاء عذبهم وان شاء عفا عنهم وان شاء قربهم وان شاء بعدهم فيكون المشيئة والقدرة له لا لغيره ثم اظهر لطفه بعباده الذين خصهم بفضله بالمحبة والمعرفة وقال الاستاذ ذكر حديث السجن دون البئر لطول مدة السجن وقلة مدة البير وقال فى قوله وجاء بكم من البدو اشارة الى انه كما سُر برؤية اخوته وان كانوا اهل الجفاء لان الاخوة سبقت الحضرة ثم رجع الى الحق بالكلية ووصف بما نال منه من من كرمه بقوله { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ } من ملك النبوة والعلم بحقائق المخاطبة وايضا اعطيتنى من ملكك ملك الربوبيّة حيث البستنى شواهد جودك وانوار جودك حتى املك بحسنى وجمالى قلوب العالمين وايضا اتيتنى من ملك شاهدتك وعلمتنى من حقائق معرفتك ثم وصف الله سبحانه بالقدرة القديمة والعظمة الازلية بقوله { فَاطِرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } وبين مكانته فى قربه وساحة كبريائه بقوله { أَنتَ وَلِيِّي فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ } حيث كاشف جمالك لى فى الدنيا وعرفتنى صفاتك وتكشف ايضا نقاب عزتك لى عن وجهك الكريم فى الاخرة ثم حاج شوقه الى جمال الازل وراى تمام نعمة الله عليه فقال { تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ } اى توفنى حين اخرجتنى من رؤية الحدثان وتدبير الاكوان وما سوى من العرفان والايقان مما يبدو الى من كشف قدمك وجلال ابدك وانوار الوهيتك غيبتنى عنى فيك حتى لا ابقى انا فيك وتبقى لى والحقنى بمن كان مال بهذه الصفة قال سهل فى قوله { تَوَفَّنِي مُسْلِماً } فيه ثلاثة اشياء سؤال ضرورة واظهار فقد واكتساب فرض وقال ايضا امتنى قانعاً مسلماً اليك أمري مفوضاً اليك شانى لا يكون لى الى نفسى رجوع بحال ولا تدبير في سبب من الاسباب قال الدينورى والحقنى بالصالحين من اصلحتهم بمجالستك محضرك واسقطت منهم سمات الخلق وازلت عنهم رعونات الطبع قال ابو سعيد القرشى فى قوله { تَوَفَّنِي مُسْلِماً } قال هذا كلام مشتاق لم اجانس الا بالله وقال الاستاذ قدم الثناء على الدعاء كذلك صفة اهل الولاء ثم قال انت وليى فى الدنيا والاخرة أقدر بقطع الاسرار عن الاغيار وقال الاستاذ فى قوله { تَوَفَّنِي مُسْلِماً } علم انه ليس بعد الكمال الا الزوال فسأل الوفاة ويقال من امارات الاشتياق تمنى الموت على بساط العوافى مثل يوسف القى فى الجب وحُبس فى السجن فلم يقل توفنى مسلاما ولما تم له الملك واستقام له الامر ولقى الإخوة سجدا له ولقى ابويه معه على العرش قال توفنى مسلماً فعلم انه يشتاق الى لقائه ثم بين سبحانه ان هذه القصص العجيبة والانباء الغريبة الازلية على لسان النبى الأمي امر سماوى عرفه الله بالوحى الصادق والكلام الناطق بقوله { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ } لتخبر العاشقين والمحبين والمؤمنين لتسلى بها ألم فؤادهم وتعرفهم بها الصبر فى بلائه والشكر فى الائه والشوق الى لقائه.