الرئيسية - التفاسير


* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) مصنف و مدقق


{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإِسْلٰمَ دِيناً فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قوله جلّ ذكره: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ }.

وأكل الميتة أن تتناول من عِرْضِ أخيك على وجه الغيبة، وليس ذلك مما فيه رخصةٌ بحالٍ لا بالاضطرارِ ولا بالاختيارِ، وغير هذا من المَيْتَةِ مباحٌ في حالِ الضرورة.

ويقال كما أَنَّ في الحيوان ما يكون المزكى منه مباحاً والميتة منه حراماً فكذلك من ذبح نفسه بسكاكين المجاهدات وطَهَّرَ نفسه - مُبَاحٌ قربه، حلال صحبته. ومَنْ ماتت نفسه في ظلمة غفلته حتى لا إحساسَ له بالأمور الدينية فخبيثةٌ نفسه، محظورٌ قُربُه، حرام معاشرته، غيرُ مباركةٍ صحبتِه.

وإنَّ السلف سموا الدنيا خنزيرةً، ورأوا أَنَّ ما يُلْهِي قربُهُ، ويُنْسِي المعبودَ ركونُه، ويحمل على العصيان جنوحُه - فهو مُحرَّمٌ على القلوب؛ ففي طريقة القوم حبُّ الدنيا حرامٌ على القلوب، وإن كان إمساكُ بعضها حلالاً على الأبدان والنفوس.

قوله جلّ ذكره: { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ }.

كما أنَّ المذبوح على غير اسمه ليس بطيِّبٍ فَمَنْ بَذَلَ رُوحَه فيه وَجَدَ رُوْحه منه، ومن تهارشته كلاب الدنيا، وقلته مخالب الأطماع، وأَسَرَتْهُ مطالبُ الأغراض والأعراض - فحرامٌ ماله على أهل الحقائق في مذهب التعزز، فللشريعَةِ الظرف والتقدير.

وأما المنخنقة فالإشارة منه إلى الذي ارتبك في حِبال المنى والرغائب، وأخذه خناقُ الطمع، وخنقته سلاسل (الحِرْص) فحرامٌ على السالكين سلوك خطتهم، ومحظور على المريدين متابعة مذهبهم.

وأمَّا الموقوذة فالإشارة منها إلى نفوس جُبِلَت على طلب الخسائس حتى استملكتها كلها فهي التي ذهبت بلا عوض حصل منها، وأمثال ذلك حرامٌ على أهل هذه القصة.

والإشارة من المتردية إلى من هلك في أودية التفرقة، وعمي عن استبصار رشد الحقيقة؛ فهو يهيم في مفاوز الظنون، وينهك في متاهات المنى.

والإشارة من النطيحة إلى من صَارَعَ الأمثال، وقارع الأشكال، وناطح كلاب الدنيا فحطموه بكلب حرصهم، وهزموه بزيادة تكلبهم، وكذلك الإشارة من:

قوله جلّ ذكره: { وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ }.

وأكيلة السبع ما ولغت فيه كلاب الدنيا، فإن الدنيا جيفة، وأَكَلَةُ الجيفِ الكلابُ ويستثنى منه المزكى وهو ما تقرر من متاع الدنيا لله؛ لأن زادَ المؤمِنِ من الدنيا: ما كان لله فهو محمود، وما كان للنَّفْس فهو مذموم.

قوله جلّ ذكره: { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ }.

فهو ما أُرْصِدَ لغير الله، ومقصودُ كلِّ حريص - بموجب شرعه - معبودُه من حيث هواه قال الله تعالى:أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية: 23] يعني اتخذ هواه إلهه.

{ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ } ، الإشارة منه إلى كل معاملة ومُصَاحبةٍ بُنِيَتْ على استجلاب الحظوظ الدنيوية - لا على وجه الإذن - إذ القمار ذلك معناه. وقَلَّتْ المعاملات المجرَّدَة عن هذه الصفة فيما نحن فيه من الوقت.

السابقالتالي
2