الرئيسية - التفاسير


* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }

قوله جلّ ذكره: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ } [المائدة: 1].

" يا " حرف نداء، و " أي " اسم منادى، " ها " تنبيه و { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } صلة المنادى. ناداهم قبل أن بداهم، وسمَّاهم قبل أن يراهم، وأَهَّلهم في آزالهِ لِمَا أوصلهم إليه في آباده.

شَرَّفهم بقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } وكلَّفهم بقوله { أَوْفُواْ } ولمَا عَلِمَ أن التكليف يوجب المشقة قَدَّم التشريف بالثناءِ على التكليف الموجِب للعناءِ.

ويقال الإيمانُ صنفان: أحدهما يشير إلى عين الجود، والثاني إلى بذل المجهود. فَبَذْلُ المجهودِ خِدْمَتُك، وعين الجود قِسْمَتُه؛ فبخدمتك عناءُ الأشباح، وبقسمته ضياءُ الأرواح.

وحقيقة الإيمان تحقق القلب بما أخبر من الغيب.

ويقال { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ }: يا مَنْ دخلوا في إيماني، ما وصلتم إلا أَماني إلا بسابق إحساني. ويقال يا مَنْ فتحتُ بصيرتَهم لشهود حقي حتى لا يكونوا كمن أعرضتُ عنهم مِنْ خَلْقِي.

قوله جلّ ذكره: { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ }.

كُلُّ مُكلَّفٍ مُطَالَبٌ بالوفاء بعقده، والعقد، ما ألزمك بسابق إيجابه، ثم وفقَّكَ - بعدما أظهرك عند خطابه - بجوابه، فانبرم العقد بحصول الخطاب، والقبول بالجواب.

ويدخل في ذلك - بل يلتحق به - ما عَقَدَ القلبُ معه سِرًّا بِسِرٍّ؛ من خلوصٍ له أضمره، أو شيء تبيَّنه، أو معنًى كوشف به أو طولب به فقَبِله.

ويقال الوفاء بالعهد بصفاء القصد، ولا يكون ذلك إلا بالتبرِّي من المُنَّة، والتحقق بتولي الحق - سبحانه - بلطائف المِنَّة.

قوله جلّ ذكره: { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }.

تحليل بعض الحيوانات وإباحتها من غير جُرْم سَبَق منها، وتحريم بعضها والمنع من ذبحها من غير طاعة حصلت منها - دليلٌ على ألاَّ عِلَّةَ لصنعه.

وحرَّم الصيد على المُحْرِم خصوصاً لأن المُحْرِمَ متجرِّدٌ عن نصيب نفسه بقصده إليه، فالأليق بصفاته كُفُّ الأذى عن كل حيوان.

قوله جلّ ذكره: { إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }.

لا حَجْرَ عليه في أفعاله، فيخصُّ من يشاء بالنُّعْمى، ويفرد من يشاء بالبلوى؛ فهو يُمْضِي الأمور في آباده على حسب ما أراد وأخبر وقضى في آزاله.