الرئيسية - التفاسير


* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ }

إنما يضافُ العبدُ إلى ما كان الغالبَ عليه ذِكْرُه بمجامع قلبِه، فصاحبُ الدنيا مَنْ في أسْرِها، وأصحابُ الجنة مَنْ هم طُلاّبُها والساعون لها والعاملون لِنَيْلِها؛ قال تعالى مخبراً عن أقوالهم وأحوالهم:لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَامِلُونَ } [الصافات: 61]. وهذه الأحوال - وإن جَلَّتْ منهم ولهم - فهي بالإضافة إلى أحوال السادة والأكابر تتقاصر، قال صلى الله عليه وسلم: " أكثر أهل الجنة البُلْه " ومَنْ كان في الدنيا عن الدنيا حُرَّاً فلا يبعد أن يكون في الجنة عن الجنة حراً، والله يختص برحمته من يشاء.

وقيل إنما يقول هذا الخطاب لأقوام فارغين، فيقول لهم: { إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ ٱليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } وهم أهل الحضرة والدنو، لا تشغلهم الجنة عن أُنس القربة، وراحات الوصلة، والفراغ للرؤية.

ويقال: لو عَلِمُوا عمَّن شُغِلُوا لَمَا تَهنَّأوا بما شُغِلُوا.

ويقال بل إنما يقول لأهل الجنة: { إِنَّ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ } كأنه يخاطبهم مخاطبة المُعاينة إجلالاً لهم كما يقال: الشيخ يفعل كذا، ويُرَادُ به: أنت تفعل كذا.

ويقال: إنما يقول هذا لأقوام في العرصة أصحاب ذنوب لم يدخلوا النار، ولم يدخلوا الجنة بَعْدُ لِعِصْيانِهِم؛ فيقول الحق: عبدي.. أهلُ النار لا يتفرغون إليك لأهوالهم، وما هم فيه من صعوبة أحوالهم، وأهل الجنة وأصحابها اليومَ في شُغْلٍ عنك لأنهم في لذَّاتهم، وما وجدوا من أفضالهم مع أهلهم وأشكالهم؛ فليس لك اليوم إلا نحن!

وقيل شغلهم تأهبهم لرؤية مولاهم، وذلك من أتم الأشغال، وهي أشغالٌ مؤنِسَةٌ مريحةٌ لا مُتْعِبَةٌ موحِشَةٌ.

ويقال: الحقُّ لا يتعلَّق به حقُّ ولا باطل؛ فلا تَنَافِيَ بين اشتغالهم بأبدانهم مع أهلهم، وشهودهم مولاهم، كما أنهم اليومَ مشغولون مستديمون لمعرفته بأي حالةٍ هم، ولا يَقْدَحُ اشتغالهم - باستيفاء حُظُوظِهم - في معارفهم.

ويقال شَغَلَ نفوسهم بشهواتها حتى يخلص الشهود لأسرارهم على غيبةٍ من إحساس النَّفْس الذي هو أصعب الرُّقباء، ولا شيء أعلى من رؤية الحبيب مع فَقْدِ الرقيب.