الرئيسية - التفاسير


* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } * { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ }

قوله جلّ ذكره: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }.

لم يغادر على وجه الدليل غُبْرةً، ولم يترك الحقُّ - سبحانه - للإشكال محلاً؛ بل أَوْضَحَ المنهاج وأضاءَ السِّراجَ، وأنار السبيلَ وألاح الدليل، فَمَنْ أراد أن يستبصر فلا يلحقه نَصَبٌ، ولا يمسُّه تعبٌ.

قوله جلّ ذكره:كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ } [الأنبياء: 35].

أي هادي أهل السماواتِ والأرض, ومنه نورهما والذي منه الشيء يسمى باسمه الشيء. ومنه نور السماوات والأرض خَلْقَاً؛ فنظامُ السماوات والأرض وإحكامها وترتيبها بوصف إتقانها حاصلٌّ بالله تعالى.

ويقال نور السماوات والأرض أي منورِّها وخلقُ ما فيها من الضياء والزينة، وموجِدُ ما أودعها من الأدلة اللائحة.

ويقال نوَّر اللَّهُ السماءَ بنجومها فقال:وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ } [فصلت: 12] فكذلك زينَ القلوب بأنوارٍ هي نورُ العقل ونورُ الفهم ونورُ العْلم ونورُ اليقين ونورُ المعرفة ونورُ التوحيد، فلكلِّ شيءٍ من هذه الأنوار مطرحُ شعاعٍ بقدره في الزيادة والنقصان.

قوله جلّ ذكره: { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ }

قوله: { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ... } أراد بهذا قلب المؤمن وهو معرفته، فشبَّهَ صدرَه بالمشكاة، وشبَّه قلبه في صدره بالقنديل في المشكاة، وشبَّه القنديل - الذي هو قلبه - بالكوكب الدريِّ، وشبه إمداده بالمعرفة بالزيت الصافي الذي يمدُّ السراج في الاشتعال. ثم وصفَ الزيتَ بأَنَّه على كمال إدراك زيتونه من غير نقصان أصابه، أو خلَلٍ مسَّه، ثم وصف ذلك الزيت - في صفوته - بأنه بحيث يكاد يضيء من غير أن تمسَّه نار.

ويقال إن ضَرْبَ المثل لمعرفة المؤمن بالزيت أراد به شريعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ودينه الحنيفي، فما كان يهودياً - وهم الذين قبلتُهم إلى جانب المغرب، ولا نصرانياً - وهم الذين قبلتهم في ناحية المشرق.

وقوله: { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ }: نور اكتسبوه بجهدهم بنظرهم واستدلالهم، ونور وجدوه بفضل الله فهو بيان أضافه إلى برهانهم، أو عيان أضافه إلى بيانهم، فهو نور على نور.

ويقال أراد به قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - ونورُ معرفته موقدٌ من شجرةٍ هي إبراهيم عليه السلام، فهو صلى الله عليه وسلم على دين إبراهيم.

قوله: { لاَّ شَرْقِيَّةٍ } بحيث تصيبه الشمس بالعشي دون الغداة، ولا غربية بحيث تصيبه الشمس بالغداة دون العشي، بل تصيبه الشمسُ طولَ النهارِ ليتمَّ نضج زيتونه، ويكمل صفاءُ زيته. والإشارة فيه أنه لا ينفرد خوف قلوبهم عن الرجاء فيقرب من اليأس، ولا ينفرد رجاؤهم عن الخوف فيقرب من الأمن، بل هما يعتدلان؛ فلا يغلب أحدهما الآخر؛ تقابل هيبتهم أُنسهم، وقبضُهم بسطَهم، وصحوهُم محوَهم، وبقاؤهم فناءهم، وقيامُهم بآداب الشريعة تحقُّقَهم بجوامع الحقيقة.

السابقالتالي
2