الرئيسية - التفاسير


* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ }

كَرَّرَ قصةَ نوح لِمَا فيها من عظيم الآيات من طولِ مقامه في قومه، وشدةِ مقاساة البلاء منهم، وتمام صبره على ما استقبله في طول عمره، ثم إهلاك الله جميع مَنْ أَصَرّ على كفرانه، ثم لم يغادِرْ منهم أحداً، ولم يبال - سبحانه - بأنْ أهلك جملتهم. ولقد ذكر في القصص أن امرأةً من قومه لما أخذهم الطوفان كان لها مولودٌ، فَحَمَلَتْه وقامت حاملةً له ترفعه عن الطوفان، فلمَّا بلغ الماءُ إلى يدها رفعته إلى ما فوق رأسها - قدْرَ ما أمكنها - إبقاءً على وَلَدِها، وإشفاقاً عليه من الهلاك، إلى أن غَلَبَها الماءُ وتَلِفَتْ وولدها. فأوحى الله إلى نوح - عليه السلام - لو أني كنتُ أَرْحَمُ واحداً منهم لَرَحِمْتُ تلك المرأة وولدها.

وفي الخبر أن نوحاً كان اسمه يشكر، ولكثرة ما كان يبكي أوحى الله إليه: يا نوح...إلى كم تنوح؟ فسمَّاه نوحاً. ويقال إن ذنبَه أنه مرّ يوماً بكلبٍ فقال: ما أوحشه!

فأوحى الله إليه: اخلق أنت أَحْسَنَ من هذا! فكان يبكي معتذراً عن قالته تلك. وكان قومُه يلاحظونه بعين الجنون، وما زاد لهم دعوةً إلا ازدادوا على إجابته نبوةً، وما زاد لهم صفوةً إلا ازدادوا على طول المدة قسوةً على قسوة.

ولما عمل السفينة ظهر الطوفان، وأدخل في السفينة أَهْلَه، تعرْض له إبليسُ - كما جاء في القصة - وقال: احْمِلْني معك في السفينة، فأبى نوح وقال: يا شقيُّ.. تطمع في حملي إياك وأنت رأسُ الكفَرَةِ؟!

فقال إبليسُ: أَمَا عَلِمْتُ - يا نوحُ - أَنَّ الله أنْظَرني إلى يوم القيامة، وليس ينجو اليومَ أحدٌ إلاّ في هذه السفينة؟

فأوحى الله إلى نوح أَن احمله فكان إبليسُ مع نوح في السفينة، ولم يكن لابنه معه مكانٌ في السفينة. وفي هذا ظهور عين التوحيد وأن الحكم من الله غير معلول لأنه إن كان المعنى في أن ابنه لم يكن معه له مكان لكُفْرِه فبإبليس يُشكل... ولكنها أحكامٌ غيرُ معلولة، وجاز له - سبحانه - أن يفعل ما يريد: يَصِلُ مَنْ شاء وَيَرُدُّ مَنْ شاء.