الرئيسية - التفاسير


* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ }

قوله جلّ ذكره: { وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ }.

{ حَقَّ جِهَادِهِ }: حق الجهاد ما وافق الأمر في القَدْرِ والوقتِ والنوعِ، فإذا حَصَلَتْ في شيءٍ منه مخالفةٌ فليس حَقَّ جهاده.

ويقال المجاهدة على أقسام: مجاهدةٌ بالنَّفْسِ، ومجاهدةٌ بالقلبِ، ومجاهدةٌ بالمال. فالمجاهدةُ بالنفس ألا يَدَّخِرَ العبدُ ميسوراً إلا بَذَلَه في الطاعة بتحمل المشاق، ولا يطلب الرخص والإرفاق. والمجاهدةُ بالقلب صَوْنُه عن الخواطرِ الرديئةِ مثل الغفلة، والعزمُ على المخالفات، وتذكرُ ما سَلَفَ أيام الفترة والبطالات. والمجاهدة بالمال بالبذل والسخاء ثم بالجود والإيثار.

ويقال حق الجهاد الأخذ بالأشق، وتقديم الأشق على الأسهل - وإنْ كان في الأَخَفِّ أيضاً حق.

ويقال حق الجهاد ألا يَفْتُرَ العبدُ عن مجاهدةِ النَّفْس لحظةً، قال قائلُهم:
يا رَبِّ إِنَّ جهادي غيرُ مُنْقَطِعٍ   فكلُّ أرضٍ لي ثَغْر طرسوس
قوله جلّ ذكره: { هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ }.

يحتمل أن يقول مِنْ حَقِّ اجتبائه إياكم أَنْ تُعَظمِّوا أَمْرَ مولاكم.

ويحتمل أن يقال هو الذي اجتباكم، ولولا أنه اجتباكم لَمَا جَاهَدْتُم، فلاجتبائه إياك وَفَّقَكَ حتى جاهدتَ.

ويقال عَلَم ما كنت تفعله قبل أَنْ خَلَقَكَ ولم يمنعه ذلك مِنْ أَنْ يَجْتَبِيَكَ، وكذلك إِنْ رأى ما فَعَلْتَ فلا يمنعه ذلك أَنْ يتجاوزَ عنك ولا يعاقبك.

قوله جلّ ذكره: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }.

الشرع مبناه على السهولة، والذي به تصل إلى رضوانه وتستوجِب جزيلَ فضله وإحسانه، وتتخلَّص به من أليم عقابه وامتحانه - يسيرٌ من الأمر لا يستغرق كُنْه إمكانك؛ بمعنى أَنَّك إٍن أَرَدْتَ فِعْلَه لَقَدَرْتَ عليه، وإنْ لم توصَفْ في الحال بأنَّك مستطيعٌ ما ليس بموجودٍ فيك.

قوله جلّ ذكره: { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ }.

أي اتَّبِعوا والزَمُوا مِلَّةَ أبيكم إبراهيم عليه السلام في البَذْلِ والسخاء والجود والخلة والإحسان.

قوله جلّ ذكره: { هُوَ سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ }.

اللَّهُ هو الذي اجتباكم، وهو الذي بالإسلام والعرفان سَمَّاكم المسلمين. وقيل إبراهيم هو الذي سماكم المسلمين بقوله:وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [البقرة: 128].

قوله: { لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ } ، نَصَبَ الرسولَ بالشهادة علينا، وأمره بالشفاعة لأمته، وإنما يشهد علينا بمقدار ما يُبْقى للشفاعة موضعاً ومحلاً.

قوله جلّ ذكره: { وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ }.

وتلك الشهادة إنما نؤديها لله، ومَنْ كانت له شهادة عند أحد - وهو كريم - فلا يجرح شاهده، بل يسعى بما يعود إلى تزكية شهوده.

قوله جلّ ذكره: { فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ }.

أقيموا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ بحكم الإتمام، ونعت الاستدامة، وجميل الاستقامة.

والاعتصامُ بالله التبري من الحول والقوة، والنهوض بعبادة الله بالله لله. ويقال الاعتصام بالله التمسكُ بالكتاب والسنة. ويقال الاعتصامُ بالله حُسْنُ الاستقامة بدوام الاستعانة.

{ هُوَ مَوْلاَكُمْ }: سيدكم وناصركم والذي لا خلف عنه.

{ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ } نِعْمَ المولى: إخبارُ عن عظمته، ونعم النصير: إخبارُ عن رحمته.

ويقال إن قال لأيوب:نِّعْمَ ٱلْعَبْدُ } [ص: 44] ولسليمان:نِّعْمَ ٱلْعَبْدُ } [ص: 30] فلقد قال لنا: { فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ } ، ومدحه لِنفسه أعزُّ وأجلُّ من مدحه لك.

ويقال: { فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ }: بَدَأَكَ بالمحبة قبل أنْ أحببتَه، وقبل أن عَرَفْتَه أو طَلَبْتَه أو عَبَدته.

{ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ }: إذا انصرف عنكَ جمع مَنْ لَكَ فلا يدخل القبرَ معك أحدٌ كان ناصِرَك، ولا عند السؤال أو عند الصراط.