الرئيسية - التفاسير


* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ } * { فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ }

أي واذكر أيوبَ حين نادى ربَّه. وسمِّي أيوب لكثرة إيابه إلى الله في جميع أحواله في السرَّاء والضرَّاء، والشِّدَّة والرَّخاءِ.

ولم يَقُلْ: ارحمني، بل حَفِظَ أدب الخطاب فقال: { وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ }.

ومن علامات الولاية أن يكونَ العبدُ محفوظاً عليه وقتُه في أوانِ البلاء.

ويقال إخبارُه عنه أنه قال: { مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } لم يَسْلُبْه اسمَ الصبرِ حيث أخبر عنه سبحانه بقوله:إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً } [ص: 44] لأنَّ الغالبَ كان من أحواله الصبر، فنادِرُ قالتِه لم يَسْلبْ عنه الغالِبَ من حالته. والإشارة من هذا إلى أنَّ الغالبَ من حال المؤمن المعرفةُ، أو الإيمانُ بالله فهو الذي يستغرقُ جميعَ أوقاته، ولا يخلو منه لحظةً؛ ونادِرُ زلاَّتِهِ - مع دائمِ إيمانِه - لا يُزَاحِمُ الوصفَ الغالب.

ويقال؛ لمَّا لم يكن قوله: { مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } على وجه الاعتراض على التقدير - بل كان على وجه إظهار العجز - فلم يكن ذلك مُنافياً لصفة الصبر.

ويقال: استخرج منه هذا القولَ ليكونَ فيه مُتَنَفَّسٌ للضعفاء في هذه الأمة حتى إذا ضَجَّوا في حالِ البلاء لم يكن ذلك منافياً لصفة الصبر.

ويقال لم يكن هذا القولُ منه على جهة الشكوى، وإنما كان من حيث الشكر { أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } الذي تخصُّ به أولياءك، ولولا أنك أرحم الراحمين لَمَا خصصتني بهذا، ولكن برحمتك أهَّلْتني لهذا.

ويقال لم يكن هذا القولُ من أيوب ولكنه استغاثةُ البلاء منه، فلم يُطِقْ البلاءُ صُحْبَتَه فضجَّ منه البلاءُ لا أيوبُ ضَجَّ من البلاء... وفي معناه أنشدوا:
صابَرَ الصبرَ فاستغاثَ به الصبرُ   فصاح المحبُّ بالصبر صبرا
ويقال همزة الاستفهام فيه مضمرة، ومعناه: أيمسني الضرُّ وأنت أرحم الراحمين؟ كما قال:وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [الشعراء: 22] أي أتلك نعمة تمنها عليَّ أن عبدت بني إسرائيل؟

ويقال إن جبريلَ - عليه السلام - أتى أيوبَ فقال: لِمَ تسكت؟ فقال: ماذا أصنع؟ فقال: إن الله سيان عنده بلاؤك وشفاؤك...فاسأل الله العافيةَ فقال أيوب: { أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ } فقال تعالى: { فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ } [الأنبياء: 84] والفاء تقتضي التعقيب، فكأنه قال: فعافيناه في الوقت. وكأنه قال: يا أيوب، لو طلبتَ العافيةَ قبل هذا لاستَجْبْنَا لك.

ويقال سقطت دودةٌ كانت تأكل من بدنه على الأرض فرفعها أيوبُ ووضعها على موضعها، فعقرته عقرةً عِيلَ صَبْرُه فقال: مسني الضر، فقيل له: يا أيوب: أتصبر معنا؟ لولا أني ضربتُ تحت كل شَعْرَةٍ من شعراتك كذا خيمة من الصبر.. ما صَبَرْتَ ساعةً!

ويقال كانت الدوداتُ التي تأكل منه أكلت ما عَلاَ بَدَنَه، فلم يَبْقَ منه إلا لسانهُ وقلبه، فصعدت دودوة إلى لسانه، وأخرى إلى قلبه فقال:

{ مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ }... فلم يبق لي إلا لسانٌ به أذكرك، أو قلبٌ به أعرفك، وإذا لم يَبْقَ لي ذلك فلا يمكنني أن أعيش وأصبر!

ويقال استعجمت عليه جهةُ البلاء فلم يعلم أن يصيبه بذلك تطهيراً أو تأديباً أو تعذيباً أو تقريباً أو تخصيصاً أو تمحيصاً.

السابقالتالي
2 3