الرئيسية - التفاسير


* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) مصنف و مدقق


{ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ }

افتتح السورةَ بِذِكْرِ الثناء على نَفْسه فقال: { سُبْحَانَ ٱلَّذِى } [الإسراء: 1]: الحقُّ سبَّحَ نَفْسَه بعزيزِ خطابِه، وأخبر عن استحقاقه لجلال قَدْرِه، وعن توحُّده بعلوِّ نُعُوتِه.

ولمَّا أراد أَنْ يَعْرفَ العبِادُ ما خَصَّ به رسولَه - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ المعراجِ من عُلوٍّ ما رقَّاه إليه، وعِظَمِ ما لَقَّاه به أَزالَ الأعُجوبةَ بقوله: { أَسْرَىٰ } ، ونفى عن نبيِّه خَطَرَ الإعجاب بقوله: { بِعَبْدِهِ }؛ لأَنَّ مَنْ عَرَفَ ألوهيته، واستحقاقَه لكمالِ العِزِّ فلا يُتَعَجَّبُ منه أن يفعل ما يفعل، ومَنْ عرف عبوديةَ نَفْسِه، وأَنَّه لا يَمْلِكُ شيئاً من أمره فلا يُعْجَبُ بحاله. فالآية أوضحت شيئين اثنين: نَفَى التعجَّبِ من إظهارِ فِعْلِ اللَّهِ عزَّ وجل، ونفَى الإعجاب في وصف رسول الله عليه السلام.

ويقال أخبر عن موسى عليه السلام - حين أكرمه بإسماعه كلامه من غير واسطة - فقال:وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا } [الأعراف: 143]، وأخبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه { أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ } وليس مَنْ جاءَ بنفْسِه كمنْ أَسْرَى به ربُّه، فهذا مُتَحَمِّلٌ وهذا محمول، هذا بنعت الفَرْقِ وهذا بوصف الجمع، هذا مُرِيدٌ وهذا مُرَادٌ.

ويقال جعل المعراجَ بالليل عند غَفْلَةِ الرُّقَبَاءِ وغَيْبَةِ الأجانب، ومن غير ميعاد، ومن غير تقديم أُهْبَةٍ واستعداد، كما قيل:

ويقال جعل المعراجَ بالليل ليُظْهرَ تصديقَ مَنْ صَدَّقَ، وتكذيبَ مَنْ تعجَّب وكَذَّّبَ أو أنكر وجحد.

ويقال لما كان تعبُّدهُ صلى الله عليه وسلم وتهجُّدُه بالليل جَعَلَ الحقُّ سبحانه المعراجَ بالليلِ.

ويقال:
ليلةُ الوَصْلِ أَصْفَى   من شهور ودهور سواها
ويقال أرسله الحقُّ - سبحانه - ليبتعلَّم أهلُ الأرضِ منه العبادة، ثم رَقَّاه إلى السماءِ ليتعلَّمَ الملائكةُ منه آدابَ العبادة، قال تعالى في وصفه - صلى الله عليه وسلم -:مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } [النجم: 17]، فما التَفَتَ يميناً وشمالاً، وما طمع في مقامٍ ولا في إكرام؛ تجرَّد عن كلِّ طلبٍ وأَرَبٍ.

قوله: { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ }: كان تعريفه بالآيات ثم بالصفات ثم كَشّفٌ بالذات.

ويقال من الآيات التي أراها له تلك الليلة أنه ليس كمثله - سبحانه - شيءٌ في جلالهِ وجماله، وعِزِّه وكبريائه، ومجده وسنائه.

ثم أراه من آياته تلك الليلة ما عَرَفَ به صلوات الله عليه - أنه ليس أحدٌ من الخلائق مثْلَه في نبوته ورسالته وعلوِّ حالته وجلال رتبته.