الرئيسية - التفاسير


* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) مصنف و مدقق


{ يَمْحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ }

المشيئة لا تتعلق بالحدوث، والمحو والإثبات متصلان بالحدوث.

فصفات ذات الحق - سبحانه - من كلامه وعلمه، وقوْلِه وحُكْمِه لا تدخل تحت المحو والإثبات، وإنما يكون المحو والإثبات من صفات فعله؛ المحوُ يرجع إلى العَدَم، والإثباتُ إلى الإحداثِ، فهو يمحو من قلوب الزُّهاد حُبَّ الدنيا ويُثْبِتُ بَدَلَه الزهدَ فيها، كما في خبر حارثَةَ: " عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي حَجَرُها وذهَبُها ".

ويمحو عن قلوب العارفين الحظوظَ، ويُثْبِتُ بدلها حقوقَه تعالى، ويمحو عن قلوب المُوحِّدين شهودَ غير الحق ويثبت بَدَلَه شهود الحق، ويمحو آثار البشرية ويثبت أنوار شهود الأحدية.

ويقال يمحو العارفين عن شواهدهم، ويثبتهم بشاهد الحق.

ويقال يمحو العبد عن أوصافه ويثبته بالحقِّ فيكون محواً عن الخْلق مثبتاً بالحق للحق.

ويقال يمحو العبد فلا يجري عليه حكم التدبير، ويكون محواً بحسب جريان أحكام التقدير، ويثبت سلطانَ التصديق والتقليب بإدخال ما لا يكون فيه اختيار عليه على ما يشاء.

ويقال يمحو عن قلوب الأجانب ذِكْرَ الحق, ويثبت بَدَلَه غلبات الغفلةِ وهواجِمَ النسيان.

ويقال يمحو عن قلوب أهل الفترة ما كان يلوح فيها من لوامع الإرادة، ويثبت بدلها الرجوعَ إلى ما خرجوا عنه من أحكام العادة.

ويقال يمحو أوضارَ الزَّلَّة عن نفوس العاصين، وآثار العصيان عن ديوان المذنبين (ويثبت) يدل ذلك لَوْعَةَ النَّدم، وإنكسار الحَسْرَةِ، والخمودَ عن متابعة الشهوة.

ويقال يمحو عن ذنوبهم السيئةَ، ويثبت بدلها الحسنة، قال تعالى:فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [الفرقان: 70].

ويقال يمحو الله نضارةَ الشباب ويثبت ضعفَ المشيب.

ويقال يمحو عن قلوب الراغبين في مودة أهل الدنيا ما كان يحملهم على إيثار صحبتهم، ويثبت بدلاً منه الزهد في صحبتهم والاشتغال بعِشْرَتِهِم.

ويقال يمحو الله ما يشاء من أيام صَفَتْ من الغيب، وليالٍ كانت مُضاءةً بالزلفة والقربة ويثبت بدلاً منه ذلك أياماً في أشدُّ ظلاماً من الليالي الحنادس، وزمانا يجعل سَعَةَ الدنيا عليهم محابِس.

ويقال يمحو العارفين بكشف جلاله، ويثبتهم في وقت آخر بلطف جماله.

ويقال يمحوهم إذا تجلَّى لهم، ويثبتهم إذا تعزَّز عليهم.

ويقال يمحوهم إذا ردّهم إلى أسباب التفرقة لأنهم يبصرون بنعت الافتقار والانكسار، ويثبتهم إذا تجلَّى لقلوبهم فيبصرون بنعت الاستبشار، ويشهدون بحكم الافتخار.

قوله جلّ ذكره { وَعِندَهُ أُمُّ ٱلْكِتَابِ }.

قيل اللوح المحفوظ الذي أثبت فيه ما سبق به عِلْمُه وحُكْمُه مما لا تبديلَ ولا تغييرَ فيه.

ويقال إنه إشارة إلى علمه الشامل لكل معلوم.