الرئيسية - التفاسير


* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) مصنف و مدقق


{ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ }

قوله جلّ ذكره: { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ }.

في حرف تبعيض؛ لأن المُلك - بالكمال - لله وحده.

ويقال المُلْكُ الذي أشار إليه قسمان: مُلْكُه في الظاهر من حيث الولاية، ومُلْكٌ على نفسه حتى لم يعمل ما همَّ به الزَّلَّة.

ويقال ليس كلُّ مُلْكِ المخلوقين الاستيلاَءَ على الخْلق، إنما المُلْْكُ- على الحقيقة - صفاءُ الخُلُق.

قوله: { وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ }: التأويل للخواص، وتفسير التنزيل للعوام.

قوله جلّ ذكره: { فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ }.

{ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } - هذا ثناء، وقوله: { تَوَفَّنِى } - هذا دعاء.

فَقَدَّمَ الثناء على الدعاء، كذلك صفة أهل الولاء.

ثم قال: { أَنتَ وَلِيِّي فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ } هذا إقرارٌ بِقَطْع الأسرار عن الأغيار.

ويقال معناه: الذي يتولَّى في الدنيا والآخرة بعرفانه أنتَ، فليس لي غيرك في الدارين.

قوله: { تَوَفَّنِى مُسْلِماً }: قيل عَلِمَ أنه ليس بعد الكمال إلا الزوال فَسأَلَ الوفاة.

وقيل من أمارات الاشتياق تمنِّي الموت على بساط العوافي مثل يوسف عليه السلام أُلقِيَ في الجُبِّ فلم يقل توفني مسلماً، وأقيم فيمن يزيد فلم يقل توفني مسلماً، وحُبِسَ في السجن سنين فلم يقل توفني مسلماً، ثم لما تمَّ له المُلْكُ، واستقام الأمر، ولَقِيَ الإخوةَ سُجَّداً، وأَلْفَى أبويه معه على العرش قال:

{ تَوَفَّنِى مُسْلِماً } فعُلِمَ أنه كان يشتاق للقائه (سبحانه).

وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق - رحمه الله يقول. قال يوسف ليعقوب: عَلِمْتَ أنَّا نلتقي فيما بعد الموت.. فلِمَ بَكيْتَ كلَّ هذا البكاء؟

فقال يعقوب، يا بُنَيّ إنَّ هناك طرُقاً، خِفْتُ أن أسلكَ طريقاً وأنت تسلك طريقاً، فقال يوسف عند ذلك: { تَوَفَّنِى مُسْلِماً }.

ويقال إن يوسف - عليه السلام - لما قال: توفني مسلماً، فلا يبعد من حال يعقوب أن لو قال: يا بني دَعْني أشتفي بلقائك من الذي مُنِيتُ به في طول فراقك، فلا تُسْمِعْني - بهذه السرعة - قولَكَ: توفَّنِي مسلماً.