الرئيسية - التفاسير


* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ }

تَكَدُّرُ ما صفا من النِّعم، وتَغيُّرُ ما أُتيح من الإحسان والمِنَن حالٌ معهودةٌ وخُطَّة عامة، فلا أحدَ إلا وله منها خِطَّه فَمْنْ لم يرجع بالتأسُّفِ قلبه، ولم يتضاعفْ في كل نَفَسٍ تَلَهفُّهُ وكَرْبُه ففي ديوان النسيان، وأثبت اسمه في جملة أهل الهجران. ومن استمسك بعروة التضرع، واعتكف بعقوة التذلل، احتسى كاساتِ الحسرة عُلَلاً بعد نهل طاعته للحق بنعت الرحمة، وجَدَّدَ له ما اندرس من أحوال القربة، وأطْلَعَ عليه شمسَ الإقبال بعد الأفول والغيبة، كما قيل:
تَقَشَعَ غَيمُ الهجرِ عن قمر الحبِّ   وأشرق نورُ الصبح في ظلمة الغيب
وليس للأحوال الدنيوية خَطَرٌ في التحقيق، ولا يُعدُّ زوالها وتكدُرها من جملة المحن عند أرباب التحصيل، لكنَّ المحنة الكبرى والرزيةَ العظمى ذبولُ غصنِ الوصال؛ وتكدرُ مشرب القرب، وأفولُ شوارق الأُنْسِ، ورَمَدُ بصائر أرباب الشهود... فعند ذلك تقوم قيامتُهم، وهناك تُسْكَبُ العَبَراتُ. ويقال إذا نَعَقَ في ساحاتِ هؤلاء غرابُ البيْن ارتفع إلى السماء نُوَاحُ أسرارهم بالويل، ومن جملة ما يبثون نحيبهم ما قلتُ:
قولاً لَمِنْ سَلَبَ الفؤادَ فراقُه   ولقد عَهِدنا أن يُبَاحَ عِتَاقُه
بَعُدَ الفراقِ... فبالذي هو بيننا   هَلاَّ رحمتم مَنْ دنا إزهاقُه؟
عهدي بمن جحد الهوى أزمان كُـ   ـنَّا بالصبابةِ - لا يَضيق نِطاقُه
والآن مُذْ بَخِلَ الزمانُ بوصلنا   ضاق البسيطة حين دام فراقُه
هل تُرتَجى من وصل عِزِّك رجعةٌ   تحنو على قمرٍ يدوم محاقُه؟
إن كان ذاك كما تروم فأخْبِروا   أنَّى له أن يعودَ شروقَه؟