الرئيسية - التفاسير


* تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا مَثَلُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ٱلأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

شَبّهَ الحياةَ الدنيا بالماء المُنَزَّلِ من السماء يَنْبُتُ به النباتُ وتَخْضَرُّ الأرضُ وتَظْهَرُ الثمار، ويوطِّن أربابُها عليها نفوسَهم فتصيبهم جائحةٌ سماوية بغتةً، وتصير كأن لم تكن.

كذلك الإنسانُ بعد كمال سِنِّه وتمام قُوَّتِه واستجماع الخصال المحمودة فيه تخْتَرمُه المَنِيَّة، وكذلك أموره المنتظمةُ تبطل وتختلُّ لوفاته، كما قيل:
فَقَدْنَاه لمَّا تمَّ واختمَّ بالعُلَى   كذاك كسوفُ البدرِ عند تمامه
ومن وجوه تشبيه الأحوال الدنيوية بالماء المُنَزَّلِ من السماء أن المطرَ لا ينزل بالحيلة، كذلك الدنيا لا تساعدها إلا القسمة.

ثم إن المطر إن كان لا يجيء إلا بالتقدير فقد يُسْتَسْقَى... كذلك الرزق - وإنْ كان بالقسمة - فقد يُلْتَمَسُ من الله ويُسْتَعْطى.

ومنها أن الماء في موضعه سببُ حياة الناس، وفي غير موضعه سببُ خرابِ الموضع، كذلك المال لمستحقه سببُ سلامته، وانتفاع المتصلين به، وعند مَنْ لا يستحقه سبب طغيانِه، وسببُ بلاءِ مَنْ هو متصل به، كما قيل: نِعَمُ الله لا تُعاب ولكنه ربما استعجم على إنسان، وكما قيل:
يا دولةً ليس فيها من المعالي شظيَّةْ   زولى فما أنتِ إلا على الكرام بَلِيَّةْ
ومنها أن الماء إذا كان بمقدارٍ كان سببَ الصلاح، وإذا جاوز الحدَّ كان سببَ الخراب.. كذلك المال إذا كان بقَدْرِ الكفاية والكفاف فصاحبه مُنَعَّمٌ، وإذا زاد وجاوز الحدَّ أوجب الكُفران والطغيان.

ومنها أن الماءَ ما دام جارياً كان طيباً، فإذا طال مكثه تغيَّر.. كذلك المال إذا أنفقه صاحبُه كان محموداً، فإذا ادَّخَره وأمسكه كان معلولاً مذموماً.

ومنها أن الماءَ إذا كان طاهراً كان حلالاً يصلح للشرب ويصلح للطهور ولإزالة الأذى، وإذا كان غيرَ طاهرٍ فالبعكس.. كذلك المال إذا كان حلالاً، وبعكسه لو كان حراماً.

ويقال كما أن الربيعَ تتورد أشجارُه، وتظهر أنوارُه، وتخضرُّ رِباعُه، وتتزين بالنبات وِهَادُه وتِلاعه لا يُؤْمَن أَنْ تصيبه آفة من غير ارتقاب، وينقلب الحال بما لم يكن في الحساب. كذلك مِنَ الناسِ مَنْ تكون له أحوالٌ صافية، وأعمالٌ بشرط الخلوص زاكية؛ غصونُ أُنسِه مُتَدَلِّية، ورياضُ قربِه مونقةٌ...ثم تصيبه عَيْنٌ فيذبل عودُ وِصاله، وتنسدُّ أبوابُ عوائد إقباله، كما قيل:
عينٌ أصابَتْكَ إنّ العينَ صائبةٌ   والعينُ تُسْرعُ أحياناً إلى الحَسَدِ