الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } * { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ }

قوله - عز وجل -: { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ }.

اختلف فيه:

قال بعضهم: { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } ، [أي]: من البشر وهو امتنان منه عليهم؛ حيث بعث الرسول من البشر وله أن يبعث من غير البشر، لكنه بعث من البشر؛ ليعرفوا الآيات التي يأتي بها من التمويهات؛ لأنهم يعرفون مبلغ وسع البشر في الأشياء وقدر إمكانهم بعلم الأشياء، فإذا جاء بالأشياء التي هي خارجة عن الطباع ووسع البشر في التعليم، عرفوا أنها آيات لا تمويهات، مع [ما] يألف كل ذي جنس بجنسه وينفر من غير جنسه، هذا ظاهر في الخلائق أن كل ذي جنس يألف بجنسه ولا يألف بغير جنسه، فبعث الرسول من البشر ومن جنسهم؛ ليألفوا به، ويقبلوا منه ما يأتيهم به ويجيبوه إلى ما يدعوهم إليه.

وقال بعضهم: { رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } ، أي: من المكان الذي أنتم فيه وهو الحرم.

وقال آخرون: { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } ، أي: من أنسابكم، وهو أيضاً موضع الامتنان عليهم؛ حيث بعثه من أنسابهم يعرفون نسبه ومولده ومنشأه من بين أظهرهم سليماً عن جميع الآفات بريئا عن جميع المطاعن والعيوب؛ لأن المرء إذا كان مولده ومنشؤه من غير أظهرهم في قبيلة أو في مكان لا يعرف له النسب، ربما يتمكن فيه الطعن والعيب، ويقع التناكر في نسبه؛ لجهلهم بنسبه ومولده ومنشئه على السلامة والصحة والبراءة من العيوب، فبعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يتمكن فيه ما ذكرنا من المطاعن، ولا يعرف شيء من العيوب والآفات التي ذكرنا فيه. وقال بعضهم: قوله: { مِّنْ أَنفُسِكُمْ } ، [أي]: من العرب أميا كما هم، لا يكتب ولا يقرأ ولا يخطه بيمينه على ما وصفه في كتابه:ٱلنَّبِيَّ ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ... } [الأعراف: 157] الآية، وقال:وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ } [العنكبوت: 48]، وذلك أن العرب تتمنى أن يبعث رسول منهم بقوله:لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ } [فاطر: 42]، ذكر مجيء الرسول من أنفسهم؛ ليكون أبعد من المطاعن التي طعنوا فيه والآفات التي ذكروا فيه، وأبرأه من العيوب التي رموه بها من نحو السحر والكهانة والجنون والافتراء على الله، و[ليكون] أقرب إلى المعرفة بأنه رسول؛ لأن ما يأتي به من الآيات والحجج يعرفون أنها سماوية؛ لما عرفوا أنه لم يتعلم السحر ولا أخذوا عليه بكذب قط ولا جن قط بما كان منشؤه فيما بين أظهرهم.

وقوله: { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ }. قيل: شديد عليه ما أعنتكم، أي: ما ضيق عليكم وضركم. وقال القتبي: العنت: الضيق. وقال بعضهم: العنت: الإثم، أي: شديد عليه ما أثمتم. وقال أبو عوسجة: هو إلى الإثم أقرب. وهو يحتمل كل إثم: الكفر وغيره.

السابقالتالي
2