الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } * { أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } * { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } * { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } * { أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ } * { فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ } * { وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ } * { وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ } * { وَهُوَ يَخْشَىٰ } * { فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ } * { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } * { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } * { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ } * { مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ } * { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } * { كِرَامٍ بَرَرَةٍ }

قوله - عز وجل -: { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } ذكر الحسن أن تعبس الوجه والتولي كانا بنفس المجيء على ظاهر الآية؛ فإنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده من عظماء المشركين [قوم] يعظهم ويدعوهم إلى الإسلام، فلما جاءه ابن أم مكتوم يسأله، أعرض عنه؛ لمكان أولئك القوم، وعبس وجهه؛ رجاء إسلامهم.

وذكر غيره من أهل التفسير: أنه عبس وتولى؛ لما سأله ابن أم مكتوم عما فيه رشده وهداه؛ فعبس وجهه بقطعه الحديث عليه.

ثم هذا التعبس منه - عليه الصلاة والسلام - كان في أمر لو التأم، ثم وزن ذلك بخيرات أهل الأرض، لرجح على خيراتهم ومحاسنهم؛ لأنه ذكر أنه كان مقبلا على رؤساء الكفرة يعظهم ويحرضهم على الإسلام؛ رجاء أن يسلموا؛ فيكون في إسلامهم رجاء إسلام كثير من القوم؛ لأنهم كانوا من علية القوم وعظمائهم؛ فكان في إسلامهم رجاء إسلام من يتبعهم من قومهم؛ فيستوجب بإسلامهم من جزيل الثواب وعظم المنزلة ما لا يبلغه آخر بجميع محاسنه؛ فكان في سؤاله إياه منع ما قصد إليه من إحراز جزيل الثواب وكريم الخصال، وإذا كان هكذا فتعبس الوجه في مثل هذا الحال أمر سهل لا يستبعد، ولا يستنكر.

والثاني: أن تعبس الوجه على الأعمى، والإعراض عنه لا يظهر للأعمى؛ لأنه لا يراه؛ فلا يعده جفاء، وكان في إقباله على أولئك القوم وحسن صحبته إياهم رجاء الإسلام منهم؛ إذ إقباله وحسن صحبته يظهر لهم، وفي الإعراض عنهم ذهاب ذلك الرجاء وإبداء الجفاء منه إياهم، ومن آثر الوجه الذي فيه اتقاء الجفاء والدعاء من الشرك إلى الهدى وصلاح الدين والدنيا، فهو محمود عند ذوي الأحلام والنهى.

ولأن إقباله على القوم إذ كان؛ لمكان دعائهم إلى الإسلام، وقد أمرنا بدعاء الكفرة إلى الإسلام، وإن كان في دعائهم إتلاف أنفسنا وأموالنا، فلأن يسوغ الدعاء من وجه ليس فيه إلا تعبيس الوجه على واحد من المسلمين - أولى، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وجد منه هذا النوع من الإيثار؛ اجتهادا ورأيا، والأنبياء - عليهم السلام - قد جاءهم العتاب من الله - تعالى - بتعاطيهم أمورا لم يسبق من الله - تعالى - لهم الإذن في ذلك، وإن كان الذي تعاطوه من الأمور أمورا محمودة في تدبير الخلق؛ نحو ما عوتب يونس - عليه السلام - وعوقب بمفارقة قومه بغير إذن، وإن كان مثل تلك المفارقة لو وجدت من واحد من أهل الأرض، استوجب بها الحمد، وحسن الثناء؛ لأن تلك المفارقة لا تخلو من أحد أمور ثلاثة:

أحدها: أن قومه كانوا أهل كفر، وكانوا له أعداء في الدين؛ ففارقهم؛ لينجو منهم، ويسلم له دينه، ومثل هذا لو وجد من غير الأنبياء - عليهم السلام - عد ذلك من أفضل شمائله.

السابقالتالي
2 3 4 5