الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } * { قُمْ فَأَنذِرْ } * { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } * { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } * { وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } * { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } * { وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ }

قوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ }:

قيل: إن الذي حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على التدثر: أنه كان في بعض طرق مكة إذ سمع صوتا من السماء والأرض؛ فنظر عن يمينه وعن يساره وأمامه وخلفه، فلم ير شيئا، فرفع رأسه فرأى شيئاً؛ ففرق منه، فأتى بيته، وقال: " زملوني " ، فدثروه.

فإن صح ما قالوا، وإلا لم يسعهم أن يشهدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي حمله على التدثر ما ذكروا من الفرق.

ولأن التدثر ليس مما يسكن به الروع الذي يحل بصاحبه من الصياح.

وذكروا أن أول ما نزل من الوحي قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } ، فإن صح ما ذكروا، فأول ما أوحي إليه هو الصياح الذي سمعه؛ إذ كان ذلك متقدما على قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ }.

وقيل: إن كفار مكة قذفوه بالسحر، وأجمعوا رأيهم على أن ينسبوه إليه، وفشا هذا القول فيهم له؛ فأحزنه ذلك؛ فدخل بيته وتدثر بثيابه، فأمره الله - تعالى - أن يقوم فينذرهم بقوله: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ } ، وعلى هذا التأويل يكون الوحي نازلا قبل نزول هذه السورة، حتى سموه: ساحرا؛ لما يرون منه من الآيات، والله أعلم.

وذكر أن موسى [صلوات الله على نبينا وعليه] قال: " أتاني ربي من طور سيناء، وسيأتي من طور ساعورا، وسيطلع من جبل فاران ".

فإن صح هذا الخبر، فمعنى قوله: " أتاني ربي " ، أي: أوحى إلي، وقوله: " وسيأتي من طور ساعورا " هو الوحي إلى عيسى عليه السلام، وقوله: " وسيطلع من جبل فاران " هو القرآن الذي أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا الخبر دلالة أن الأخبار التي ورد بها ذكر نزول الرب في كل ليلة إلى سماء الدنيا، هي على نزول أمره إلى ملائكته، أن قولوا: " هل من داع فيجاب؟، هل من مستغفر فيغفر له؟ " ، فجائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحي إليه كان بجبل فاران، وهو جبل من جبال مكة، أو كان ذلك الجبل منسوبا إلى ذلك المكان.

ثم في قوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } تثبيت نبوة [نبينا] محمد صلى الله عليه وسلم وآية رسالته، وذلك أن تعريف المرء بما عليه من الثياب ونسبته إليه، لا يخرجه مخرج التعظيم والتبجيل، وإنما التبجيل فيما يدعى باسمه أو بكنيته، فلو كان الأمر على ما زعمت الكفرة: أن هذا القرآن ليس من عند الله، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي اخترعه من ذات نفسه، لكان لا يعرف نفسه بثيابه، بل يعرفها بما فيه تبجيلها وتعظيمها، فإذ لم يفعل ثبت أنه كان رسولا حقا، بلغ الرسالة على ما أوحي إليه، وأدى كما أمر، على ما ذكرنا في الآيات التي خرجت مخرج المعاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيها تثبيت رسالته؛ نحو قوله:

السابقالتالي
2 3 4 5