الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً } * { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } * { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } * { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً } * { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } * { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } * { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } * { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } * { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً }

قوله - عز وجل -: { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ }.

قال بعضهم: { ٱلصَّالِحُونَ } هم المؤمنون و { دُونَ ذَلِكَ } هم الكافرون.

ويشبه أن يكون { ٱلصَّالِحُونَ } ، و { دُونَ ذَلِكَ } ليس على الإيمان والكفر؛ لأن هذا قد ذكر فيما تقدم من الآيات بقوله: { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ } ، ولو كان التأويل على ما ذكروا، لكان يقع موقع التكرار؛ ولكن تأويله عندنا: { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ } ، أي: منا من عرف بالصلاح والستر، { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } وهم الفسقة؛ فيكون فيه إبانة أن كل أهل دين فيهم الصالح المرضي، وفيهم الفاسق المفسد في دينه؛ قال الله تعالى:وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ } [النور: 32]، ولو لم يكن منا غير صالح، لم يكن لاشتراط الصالحين معنى، وكقوله تعالى:وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } [الطلاق: 2]، فلو لم يكن منا أهل فسق، لما قال هذا.

وقوله - عز وجل -: { كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً }.

أي: أهواء متفرقة، ولم يذكروا في الأهواء المتفرقة الأصلح والأدون، وذكروا ذلك عند ذكر الفاسق والصالح؛ لأن أهل الأهواء كلٌّ [يظن] في نفسه: أنه هو المحق، وغيره على الباطل، وأما الفاسق فهو يعرف أنه يتعاطى بفسقه ما لا يحل له، ويرتكب ما نهي عنه، وكذلك كل من شاهد فسقه يعرف أنه على الباطل؛ وإن كان كذلك، ظهر الدون فيه، وظهر الصالح، ولم يظهر ذلك في اعتقاد المذاهب؛ فلم يتكلم فيه بالدون والصالح.

ثم الطرائق هي المذاهب والأهواء، والقدد: القطع، يقال: قَدَّه، أي: قطعه، فمعناه: أنا كنا على مذاهب متفرقة، وأهواء متشتتة، ففي الآية أن في الجن أهواء متفرقة، كما [أن] ذلك في الإنس، والأصل فيه أن طريق معرفة المذهب والدين الفكر والاجتهاد [ليتوصل به] إلى الحق، والمجتهد قد يصيب الطريق مرة، ويزيغ عنه أخرى؛ فلهذا ما أصاب البعض من الخلائق الطريق المستقيم، ومنهم من زاغ عنه.

ويعلم بهذا أن سبيل الجن في التوحيد وسبيل الإنس واحد، وهو الفكر، وله الاجتهاد، وأن فيهم آيات متشابهة كما في الإنس؛ إذ عن المتشابه يتولد الزيغ؛ لذلك تفرقوا على أهواء [متفرقة] مختلفة، وأما أسباب الفسق مجتمعة، فتعرف بالمعاينة، فيظهر الأدون والأرفع في الدين.

وقوله - عز وجل -: { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً }: ذكر أبو بكر الأصم أنه على كفرهم ظنوا ألا يعجزوا الله تعالى.

ولكن أكثر أهل التأويل ذكروا أن الظن هاهنا في موضع العلم، ويؤيد تأويلهم قراءة حفصة - رضي الله عنها - فإنها كانت تقرأ: { وأنا علمنا أن لن نعجز الله في الأرض فَرَرَةً ولن نسبقه هربا }.

فقوله: { لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ } أي: لن نفوته، ولا يتهيأ لنا أن نعجز الله بأهل الأرض عن إيصال نقمته وعذابه إلينا.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7