الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } * { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } * { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَٱسْتَكْبَرُواْ ٱسْتِكْبَاراً } * { ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً } * { ثُمَّ إِنِّيۤ أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } * { فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } * { يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } * { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } * { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } * { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } * { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ طِبَاقاً } * { وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ ٱلشَّمْسَ سِرَاجاً } * { وَٱللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ نَبَاتاً } * { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } * { وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ بِسَاطاً } * { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً }

قوله - عز وجل -: { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً }.

يحتمل أن يكون هذا من نوح - عليه السلام - بعد أن أخبرأَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [هود: 36]، فيكون القول منه قول معتذر: أنه لم يقصر في دعوة قومه إلى الإسلام، وأنه قد دعاهم إلى الإسلام في كل وقت وحال، وأنه قد أبلى عذره في ذلك، وإنما جاء التفريط والتعدي من جهة قومه.

ويحتمل أن يكون هذا منه على الإشفاق والرحمة والتعرض؛ لاستنزال اللين والرحمة، لعل الله تعالى بلطفه يلين قلوبهم فينقادوا للحق، ويرغبوا في الإجابة؛ ليتخلصوا من العذاب ويستوجبوا المغفرة من ربهم، فهو يخرج على أحد هذين الوجهين: إن كان قبل الإخبار، فهو على التعرض منه؛ لاستنزال اللين والرحمة، وإن كان بعده فهو على إبلاء العذر، لا على الدعاء والرجاء بأن يلين قلوبهم بلطفه فينقادوا للحق؛ إذ لا يجوز أن يخبر الله تعالى أنهم لا يؤمنون، وهو يطمع منهم أن يؤمنوا.

ثم قوله: { إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } ، أي: دعوت في كل وقت وكل ساعة من الليل والنهار أمكنني فيه الدعاء.

وقوله - عز وجل -: { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً }.

وأصل هذا أن عداوتهم كانت قد اشتدت لنوح عليه السلام، وكانوا قد استثقلوه وأبغضوا كلامه، فحدث لهم ببغضهم كلامه واستثقالهم إياه معنى حملهم على الفرار؛ فنسب ذلك إلى الدعاء؛ لأن حدوث ذلك المعنى كان عند وجود الدعاء؛ فنسب إلى الدعاء على معنى المجاورة والقرب، لا أن يكون الدعاء في الحقيقة سببا لزيادة الفرار؛ وهو كقوله تعالى:وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [التوبة: 125]، والقرآن لم يجعل سببا لزيادة الرجس، ولكنهم لما أحدثوا بغضا عندما تلى عليهم القرآن، فحدث لهم بذلك معنى حملهم على ذلك الوجه، فأضيفت تلك الزيادة إلى القرآن؛ إذ عند ذلك حدث ذلك السبب الزائد في الرجس، فنسب إليه على معنى المجاورة، وقال الله تعالى:فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي } [المؤمنون: 110] وهم لم يكونوا منسيين، بل كانوا مذكرين يذكرونهم مرة بعد مرة، لكن بغضهم إياهم واتخاذهم سخريا أوقع لهم النسيان، فنسب إليهم الإنساء، فعلى ذلك لما أبغضوه واستثقلوا كلامه ودعاءه، أحدث لهم ذلك البغض زيادة نفار وجحود، ثم نسب النفار إلى الدعاء [على] الوجه الذي ذكرنا لا أن يكون الدعاء في الحقيقة منفر.

وقوله - عز وجل -: { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوۤاْ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِمْ وَٱسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ } ، وقال في موضع آخر:أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ... } [إبراهيم: 9] إلى قوله:فَرَدُّوۤاْ أَيْدِيَهُمْ فِيۤ أَفْوَٰهِهِمْ }

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7