الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } * { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }

قوله - عز وجل -: { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ }.

في الآية إضمار - والله أعلم - من وجهين:

أحدهما: قوله: وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبوه إلا أخذنا أهلها المكذبين له بالبأساء، وما ذكر، وإلا لا يحتمل أن يرسل إليهم رسولاً ثم يأخذهم بما ذكر من غير أن كان منهم رد وتكذيب له.

والثاني: { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ } أهلكناها { مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا } قبل الهلاك { بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } ثم لم يأخذ الله قوماً بالهلاك قبل أن يبعث رسولاً إليهم، وقبل: أن يغيّروا هم ما أنعم عليهم بأنفسهم؛ كقوله:وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِيۤ أُمِّهَا رَسُولاً.... } [القصص: 59] الآية؛ وقوله:وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15]، وقال:إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد: 11] وقال:وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } [القصص: 59] وغير ذلك من الآيات، أخبر أنه لا يأخذهم بالعذاب والهلاك إلا بعد قطع العذر لهم من جميع الوجوه، وإن كان له الإهلاك قبل أن يبعث إليهم الرسول لما ركب فيهم من العقول السليمة مما بها يوصل إلى فهم كل ما جعل فيهم من آثار وحدانيته وآيات ربوبيته، وما جعل لهم من السمع والنطق ما به يوصل إلى سمع كل ما غاب والنطق بكل ما يريدون، ما لم يجعل ذلك لغيرهم من البهائم، وما أنعم عليهم من تصوير الصور ما لم يتمن أحد تحويله منها إلى غيرها من الصور، لكنه لا يهلكهم إلا بعد بعث الرسل إليهم لما أن الخلق على مراتب؛ منهم من يفهم بالعقل لا يحتاج إلى معونة السمع، وهم الحكماء والعلماء الذين يدركون الأشياء بالبديهة، ومنهم من لا يدرك إلا بمعونة السمع وهم كالصبيان، إنهم لا يدركون إلا بالسمع وفضل التنبيه، ومنهم من لا يدرك بالعقل ذلك ولا بالسمع حتى تصيبهم الشدائد والعبر في أنفسهم وفيما أنعم عليهم، وهم كالبهائم الذين لا عقل لهم ولا سمع، ولكن يعرفون الشدائد وما يصيبهم من البلاء، فعلى ذلك يمتحنهم عز وجل، ويبتليهم بالشدائد والبلايا أولاً، فإن رجعوا عن ذلك وعرفوا نعمه، وإلا أهلكهم بعد ذلك فعند ذلك ينتهون ويتذكرون، وذلك قوله:فَأَخَذْنَٰهُمْ بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } [الأنعام: 42].

وقوله: { بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ } قد ذكرناه في صدر الكتاب.

وقوله - عزّ وجل -: { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ }.

أي: لكي يكون عليهم التضرع، أو لكي يلزمهم التضرع والتذكر.

وقوله - عز وجل -: { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ }.

وهو ما ذكر أهل التأويل السعة والرخاء بعد الشدة والقحط، وما حل بهم من البلايا { حَتَّىٰ عَفَوْاْ }.

السابقالتالي
2