الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } * { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } * { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { وَهُوَ ٱلَّذِي يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّىٰ إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ ٱلْمَآءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } * { وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ }

قوله - عز وجل -: { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ }.

وذكر ما بينهما في مواضع، ولم يذكر في مواضع، وذلك داخل في ذلك بقوله:قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [فصلت: 9]، الذي صنع ذلكوَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } [فصلت: 10] ثم جمع اليومين الأولين مع هذا الذي ذكر فيه وقال:فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } [فصلت: 10]، ليعلم أن ذا خلق في يومين، ثم قال:ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } [فصلت: 11] إلى قوله:فَقَضَٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 12]، فتصير ستة الأيام التي أبهمها في غير ذلك، والله أعلم.

ثم قد بين - عز وجل - فساد قول كل من عبد غيره، وعجز كل ذلك عما له يُعبد وجهله بمعنى العبادة، وخروجه عن الاستحقاق بما فيه من آثار التدبير، وعليه من دلالة التقدير واستحقاق جميع معاني الخلقة، ودخوله تحت الصنعة، وحاجته إلى من احتاج إليه كل مما هي التي تبعث على العبادة وتوجب إظهار الذلة والخضوع لمن هو كذلك في الخلقة والجوهر، فألزمهم الفزع إلى من يدلهم إلى الرب الحق، ويدعوهم إلى المعبود المتعالي عن الأشباه والأضداد بما يوجب الشبه والمشاكلة، وفي وجوب ذلك دليل جاعل أخذ له شكلا، وذلك آية الصنعة ودلالة الحدث، وفي تحقيق الضد خوف ذهاب وفساد فتضمحل الألوهية وتستوجب حق الدخول تحت التقدير، والقيام على ما شاء من له التدبير؛ جل الله سبحانه عن توهم ذلك، فأكرم من بعثته الحاجة إلى معرفته ورفعته الخلقة إلى العلم بمن أنعم عليه واختصه من بين كثير من خلقه بما ركب فيه ما به يدبر أمر غيره، وبه يعرف قدر النعم عليه لمن أكرمه به؛ ليشكر له فيما أولاه ويحمده على ما أعطاه، فمن بإظهار ذلك على لسان رسوله الذي عرف خلقه بما نصب من أدلة صدقه، وأبان من حجج عصمته عن الكذب فيما ينبئ، وإصابته فيما يخبر، فقال: { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ } [أي] الذي لا ربّ لكم سواه ولا لأحد من الخلائق، هو الله الذي لا إله غيره؛ ليوجهوا إليه العبادة في الحقيقة، وليؤدوا إليه شكر ما أنعم عليهم، وإن كانت نعمه أعظم من أن يجزيها العباد، وحقه أجل من أن يقوم به العباد، [و] لولا أن الله - سبحانه - لم يورد من البيان على ربوبيته، والدليل على ألوهيته سوى ما أنطق به [على] لسان رسوله بعد الإيضاح أنه لا ينطق إلا بالحق، ولا يقول إلا الصدق لكان ذلك بياناً شافياً، لكنه بفضل رحمته بين الأدلة التي تحقق ذلك وتعلم أنه كما جاء به رسوله، إلا أن يعانَد الحق ويكابَر العقل، فقال عز وجل: { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } إلى آخر ما ذكر دلالة خلق ما ذكر من آثار التدبير وعجيب التقدير الذي به قوام كل ممن يحتمل المنافع والمضار واتصال ما بين السماء والأرض على تباعد بعض من بعض في المنافع مع جميع الأضداد التي من طبعها التنافر في أصل ما ذكر حتى صارت كالأشكال، بعد أن كانت السماوات والأرض مشبهة لا تشعر بما فيها من الحكمة، ولا بالذي فيه من أنه من أي وجه يقضي الحاجة؛ ليدل أن مدبّر الكل واحد، وأنه عليم حكيم وضع كل شيء موضعه ودل كل ذي عقل على الوجه الذي يظفر بحاجته، ويقيم به أوده، ويصل إلى بغيته، وسخر الذي ذكر، فصير كلا من ذلك جارياً دائباً بما لا ينتفع هو به، ولا مضرة عليه فيه؛ ليعلم أنه لغيره قدر ولحاجة غيره سير، وكذلك الذي جبل على القرار وأمسك عن الزوال من غير أن كان له في حقيقة أحد الوجهين نفع أو ضرر؛ ليعلم أن تدبير ذلك جرى لا له، ولكن لأهل الممتحنين الذين بهم يظهر العز والشرف ونيل الجود والكرم، ويعظم الملك والسلطان؛ إذ عندهم تمييز الأحوال، وتفريق الأمور، وتوجيه إلى حقه وإعطاء كل ذي فضل فضله.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد