الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } * { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } * { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي ٱلْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ }

قوله - عز وجل -: { خُذِ ٱلْعَفْوَ } يتوجه وجهين:

أحدهما: على حقيقة الأخذ.

والثاني: على العمل بالعفو.

فإن كان على الأخذ فهو على وجهين:

[الأول:] يحتمل أن خذ الفضل الذي لا حق فيه، وهو القليل من ذلك واليسير.

والثاني: أن خذ ما يفضل من أنفسهم وحوائجهم من غير مسألة، أي: اقبل منهم ما أعطوك، ولا تلح في المسألة؛ كقوله:وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَٰلَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ } [محمد: 36-37]؛ أخبر أنه إن يسألهم أموالهم حملهم ذلك على البخل.

وإن كان على العمل فهو على وجوه:

أي: اعف [عن] الظلمة، عن ظلمهم، وأعرض عن السفهاء واحلم معهم؛ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعامل الخلق بأشياء ثلاثة: أمر أن يعفو عن الظلمة عن ظلمهم، لا يكافئهم بظلمهم، وأمر أن يعرض عن السفهاء والجهال ويحلم معهم، وأمر أن يعامل المؤمنين باللين والرفق؛ ولذلك وصفه بالرحمة والرأفة بقوله:بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 128].

وروي عن عبد الله بن الزبير قال: { خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَاهِلِينَ } قال: ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس.

وعن قتادة: { خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ } قال: خلق حسن أمر الله به نبيه ودعاه إليه.

إلى هذا ذهب بعض أهل التأويل، وإلى ذلك صرف تأويل الآية.

وقال بعضهم: هو أخذ الفضل من المال على ما ذكرنا؛ فهو منسوخ بآية الزكاة.

وروي في حرف ابن مسعود وأبي: (خذ العفو وأمر بالعرف وانه عن المنكر وأعرض عن الجاهلين).

وفيه دلالة [أنه] أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

والمعروف: هو اسم كل خير، وأمره بأن يأخذ بالعفو عن الظلمة، على ما ذكرنا، وعلى ذلك روي عن عائشة قالت: " كان رجل يشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤذيه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوسع له، وأدناه، ورحب به؛ قالت: فقلت: يا رسول الله، أليس هذا كان يشتمك؟ قال: " بلى يا عائشة؛ إن من شرار الناس الذين يكرمون اتقاء شرورهم وألسنتهم " " إلى مثل هذا دعى رسول الله بالعفو والصفح عن الظلمة وترك المكافأة.

وقوله: { وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ } أي: مر الناس بالعرف، وهو ما تشهد خلقتك وتأمرك به أشياء ثلاثة، اثنان فيما بينه وبين ربه، والواحد فيما بينه وبين الناس؛ أمّا الاثنان اللذان فيما بينه وبين ربه:

أحدهما: تأمر خلقته، وتشهد على وحدانية الله، والدلالة على ألوهيته.

والثاني: تشهد على نعم الله إليه فيدعوه إلى الشكر له فيما أنعم [الله] عليه.

وأما الوجه الذي تدعو خلقته فيما بينه وبين الناس: فهو ما ترغب نفسه في كل محاسن ومرغوب فيه، وتنفر نفسه عن كل أذى وسوء، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعامل الخلق بما ترغب نفسه وتطمع في المحاسن، وتنفر عنه وتكره، يفعل إليهم في كل ما ترغب نفسه فيه وتطمع، ويمتنع عن كل أذى وسوء، والله أعلم.

السابقالتالي
2 3