الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } * { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } * { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } * { مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }

قوله - عز وجل -: { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا }.

قد ذكرنا هذا في غير موضع.

وقوله - عز وجل -: { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ }.

قال قائلون: هو صلة قوله:سَآءَ مَثَلاً ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا... } الآية [الأعراف: 177].

وقال بعضهم: فيه الوعد لرسول الله بالنصر له، والظفر على أعدائه.

والاستدراج: هو الأخذ في حال الغفلة من حيث أمن الرجل بغتة؛ كقوله:فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [الأعراف: 95].

وقال قائلون: الاستدراج: المكر، لكن معنى ما يضاف الاستدراج والمكر إلى الخلق غير المعنى الذي يضاف إلى الله، والجهة التي تضاف إلى الله غير الجهة التي تضاف إلى الخلق [والجهة التي تضاف] إلى الخلق مذمومة، والجهة التي تضاف إلى الله محمودة، وكذلك ما أضيف إلى الله من المكر، والخداع، والاستهزاء ونحوه، هو ما ذكرنا على اختلاف الجهات، والمعنى في الجهة التي تضاف إلى الله غير الجهة التي تضاف إلى الخلق؛ لأن الله - تعالى - يأخذهم بما يستوجبون ويستحقون بحق الجزاء والمكافأة، فلا يلحقه في ذلك ذم؛ وأما الخلق فيما بينهم يمكرون ويكيدون، لا على الاستحقاق والجزاء.

وعن الحسن في قوله: { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } قال: كلما جددوا لله معصية، جدد الله لهم نعمة؛ ليستهزءوا ويأشروا ويبطروا، ثم يهلكهم.

وقال بعضهم: يظهر لهم النعم وينسيهم الشكر.

وجائز أن يكون ما ذكر من الاستدراج والمكر والكيد عبارة عن العذاب، أي: إن أخذي إياهم وعذابي شديد؛ حيث قال: { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } ، أي: عقوبتي شديدة.

وقوله - عز وجل -: { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }.

أي: كيدوه أنتم وأمهلهم وأكيد لهم؛ كقوله:إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً... } الآية [الطارق: 15-16] فيخرج قوله:وَأَكِيدُ كَيْداً } [الطارق: 16]، مخرج جزاء كيدهم؛ وكذلك قوله:وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً } [النمل: 50] أي: جزيناهم جزاء مكرهم؛ وكذلك قوله: { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ } ، أي: نجزيهم جزاء استدراج وما هو عندهم كيد، وكذلك نفعل بهم ما هو عندهم مكر وخداع، وإن لم يكن من الله مكر وخداع؛ كقوله:وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [الروم: 27] أي: إعادة الشيء عندكم أهون من الابتداء، وإن كانت الإعادة والابتداء [سواء على الله؛] فعلى ذلك قوله: { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ } ، { كَيْدِي مَتِينٌ } ونحوه، أي: نفعل بكم ما هو استدراج وكيد عندكم، والله أعلم.

ودل قوله: { وَأُمْلِي لَهُمْ } على أنه لم ينشئهم لحاجة له إليهم، أو لمنفعة له فيهم، ولكن أنشأهم لحوائج أنفسهم، ولمنافع ترجع إليهم، حتى إن عملوا نفعوا أنفسهم، وإن تركوا ضروا أنفسهم.

وقوله: { مَتِينٌ }.

قيل: شديد، أي: عقوبتي شديدة، والمتين: [هو] المحكوم القوي.

وقوله - عز وجل -: { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ }.

إن الكفرة كانوا ينسبون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجنون أحياناً، والذي حملهم على ذلك - والله أعلم - أنهم كانوا أهل العز والشرف في الدنيا، وكان لا يخالفهم أحد، ولا يستقبلهم بالمكروه إلا أحد رجلين: [رجل ذو قوة وهيبة] وله أعوان وأنصار، أو رجل به جنون؛ لأنهم كانوا يقتلون من يخالفهم في شيء من الأمر، فلما رأوا رسول الله خالفهم واستقبلهم بما يكرهون، ولم يروا معه أنصاراً ولا أعواناً ظنوا أنه لا يخالفهم إلا بجنون فيه، فنسبوه إلى الجنون لذلك، والله أعلم.

السابقالتالي
2 3