الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ } * { أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ } * { وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }

تكلم الناس في تأويل قوله: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ... } الآية؛ [فمنهم من] يقول: ذلك عندما خلق آدم، أخرج من يكون من ذريته مثل الذر، فعرض عليهم قوله: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } لكن اختلفوا؛ فمنهم من يقول: جعل بالمبلغ الذي يجري على مثله القلم؛ وهو قول الحسن.

ومنهم من يقول: عرض ذلك على الأرواح [دون الأجساد].

ومنهم من يقول: بلا عرض أنه خلق صنفين، فقال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء للنار، ولا أبالي.

ومنهم من يقول: عرض الكل على ما عليه أحوالهم وآجالهم في الدنيا، والله أعلم كيف كانت القصة، أو كيف ترى أحوال الفقر والغناء في الذر، أو كيف هؤلاء في [النار] ولا أبالي، مع اجتماعهم على القول " ببلى " لما عرض عليهم في قوله: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ }.

وقد رأينا في تلك الأخبار ما كان الكف عما له المراد، وبخاصّة حفظ العوام وأهل الضعف عن تبليغها ألزم وأعظم في النفع وأبعد عن الشبهة من روايتها وتكلف الكشف عنها، فنسأل الله العصمة عما به الهلاك، والتوفيق للنصح بما به نجاة كل سامع ودفع كل شبهة وحيرة، فإنه لا قوة إلا بالله.

ومنهم من ذهب في تأويل الآية إلى المعروف من [أمر] ذرية آدم، والأخذ عن الأصلاب، والإنشاء في الأرحام؛ على ما كان ويكون إلى يوم القيامة؛ على ما قال الله - سبحانه وتعالى -:فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ... } [الطارق: 5] إلى قوله:يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } [الطارق: 7] وقال:إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا... } الآية [الحج: 5]، وقال:وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ... } الآية [المؤمنون: 12]، وقال:مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً... } الآية [نوح: 13]، وغير ذلك مما احتج الله به من أوّل ما جرى به تدبير البشر إلى آخر ما ينتهي به أمره، مما يعجز عن تقديره وسع الخلق، ويستتر عن عقولهم كيفية بدء ذلك، وما عليه تنقله من حال إلى حال في كل طرفة عين، ولحظ بصر، مع ما فيه من عجيب التدبير وحسن التقويم الذي [لو] تكلف الخلق تصوير مثله بكل أنواع الحيل من الأصول الظاهرة، بحيث يبصره كل بصر - لكان يعجز عنه، فكيف في الظلمات الثلاث، مع ما ركب فيه من العقل والسمع والبصر، وما جعل في كل ما أنشأ فيه، ومنه مما لا يبلغ الأوهام فضلاً عن الإحاطة بما في ذلك من الحكمة؛ ولذلك قال الله:وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الذاريات: 21] وكأن ذلك هو العهد إلى جميع الذرية وإشهاد أنفسهم عليهم، يتعالى من دبرهم على ذلك وأنشأهم على ما فيهم عن أن يكون له [شريك] أو يقدر أحد قدره، فذلك هو معنى إشهادهم على أنفسهم، أي: جعلهم على أنفسهم شهوداً أن يعلموا أن مدبرهم هو ربهم، لا ربّ لهم غيره، وأنه ليس كمثله شيء، مع ما في جعل ذلك ذرية يعرف كل بما يرى من عجزه تدبير ولده، وجهله بأحواله في حال كونه في رحم أبويه بيان على أنه لا كان بآبائه وأمهاته علم، ولكن برب العالمين، وذلك هو الذي يمنعهم عن القول بالغفلة عن ذلك؛ إذ قد علمه كل منهم لآجال كونهم في الوقت الذي لا يذكره أحد.

السابقالتالي
2 3 4