الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } * { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } * { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي ٱلظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ ٱللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }

قوله - عز وجل -: { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ } معناه - والله أعلم - إنما يستجيب الذين ينتفعون بما يسمعون، وإلا كانوا يسمعون جميعاً، لكن الوجه فيه ما ذكرنا [أنه] إنما يجيب الذين ينتفعون بما يسمعون، وهو كقوله - تعالى -:إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ } [يس: 11] كان النبي - عليه السلام - ينذر من اتبع الذكر ومن لم يتبع، لكن انتفع بالإنذار من اتبع الذكر، ولم ينتفع من لم يتبع، وهو ما ذكر - عز وجل -:وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الذاريات: 55] أخبر أن الذكرى تنفع المؤمنين ولا تنفع غيرهم.

وقوله - عز وجل -: { وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ }:

اختلف فيه؛ قال بعضهم: { وَٱلْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ } [أنه] على الابتداء؛ يبعثهم الله ثم إليه يرجعون. وقال قائلون: أراد بالموتى الكفار، سمي الكافر ميتاً والمؤمن حيّاً في غير موضع من القرآن؛ كقوله:أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ } [الأنعام: 122]، فهو - والله أعلم - أن جعل لكل بشر سمعين وبصرين وحياتين؛ سمع أبدي في الآخرة، وبصر أبدي في الآخرة؛ وكذلك جعل لكل أحد حياتين: حياة [أبدية في] الآخرة، وحياة منقضية وهي حياة الدنيا؛ وكذلك سمع أبدي وهو سمع الآخرة، وسمع ذو مدة لها انقضاء وهو سمع الدنيا، ثم نفى السمع والبصر والحياة عمن لم يدرك بهذا السمع والبصر والحياة التي جعل له في الدنيا، ولم يقصد سمع الأبدية وبصر الأبدية والحياة الأبدية؛ لأنه إنما جعل لهم هذا في الدنيا؛ ليدركوا بهذا ذاك؛ وكذلك العقول التي ركبت في البشر إنما ركبت ليدركوا بها ويبصروا ذلك الأبدي، وإلا لو كان تركيب هذه العقول في البشر لهذه الدنيا خاصة، لا لعواقب تتأمل للجزاء والعقاب - فالبهائم قد تدرك بالطبع ذلك القدر، وتعرف ما يؤتى ويتقى، وما يصلح لها [....]؛ فدل أن تركيب العقول فيمن ركب إنما ركب لا لما يدرك هذا؛ إذ يدرك ذلك المقدار بالطبع من لم يركب فيه وهو البهائم التي ذكرنا.

والسمع والبصر والحياة قد جعلت في الدنيا لمعاشهم ومعادهم؛ وكذلك جعل لهم اللسان؛ لينطق بحوائجهم في الدنيا، ويعرف بعضهم من بعض حاجته في الدنيا، ويدرك به الأزلي، فإذا لم ينتفعوا بذلك أزال عنهم ذلك وسماهم العُمْي والصم والبكم؛ ألا ترى أنه قال:صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [البقرة: 18] لما لم ينتفعوا بذلك؟!

ألا ترى أنه إذ لم يدرك الأزلي والأبدي من ذلك سماه أعمى؛ حيث قال:

قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } [طه: 125].

والحياة حياتان: حياة مكتسبة: وهي الحياة التي تكتسب بالهدى والطاعات.

السابقالتالي
2 3 4