الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } * { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } * { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } * { لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } * { كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ } * { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ }

قوله - عز وجل -: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ }.

هذه الآية تدل على أن الله - تعالى - جعل حجة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم قول المنافقين في أنفسهم؛ لأنهم قالوا هذا القول سرا منهم إلى أهل الكتاب؛ لأنه لا يحتمل أن يظهروا مثل هذا القول بين يدي المؤمنين؛ ولا كان الكفار يخبرون بهذا أحداً من المؤمنين، فلما أخبر بما قال المنافقون، ثبت أنه ما علمه إلا من الوحي والتنزيل، وذلك علم نبوته عليهم، والله أعلم.

وقوله - عز وجل -: { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ }.

يحتمل وجهين:

أحدهما: أنه يجوز أن يكونوا قالوا لهم هذا على أن يتكثر أتباعهم في القتال.

والثاني: أنهم قالوا ذلك لأهل الكتاب على حسبان منهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا علم بحال هؤلاء، لم يخرجهم من المدينة؛ خوفاً أن يقال: أخرج أصحابه، وإذن لم يخرج أهل الكتاب ولم يقاتلوا.

وقوله: { وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً }.

يعني: لا ننظر أحداً فيكم أبداً.

وقوله - عز وجل -: { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } يحتمل أن يكونوا وعدوا نصرهم هذا في قرى محصنة، ثم أخبر أنهم: وإن نصروهم ثم انهزموا، هربوا ونفروا وتولوا ولم ينصروهم بعد ذلك أبداً.

وقوله - عز وجل -: { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }.

لقائل أن يقول: كيف يشهد عليهم بالكذب، والكذب إنما يدخل في الأخبار، وقولهم الذي قالوا إنما هو وعد منهم؛ فحقه أن يقال: إنهم لمخلفو الوعد؟ وبمثل هذه الحجة احتج الخوارج في تكفير من أذنب ذنباً، وذلك أنهم يقولون: إن من آمن بالله - تعالى - فقد اعتقد ألا يعصيه، فإذا عصاه تبين بعصيانه أنه كذب في اعتقاده؛ فكفر لهذا المعنى.

ومن جوابنا عن هذا: أن قول المنافقين لأهل الكتاب إخبار منهم من موالاتهم إياهم، فأخبر الله - تعالى - أنهم كاذبون فيما أخبروا عن الموالاة، والله أعلم.

وقوله - عز وجل -: { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ }.

في هذه الآية حجة رسالته على الفريقين جميعاً وذلك أن هذا خبر عن الغائب، وذلك لا يوصل إلى علمه إلا بالتعليم، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم اختلف إلى أحد غيره، ولا تلقن شيئاً من أحد من البشر، فإذا أخبر عما يحدث وعما هو غائب، ثبت أنه ما قاله إلا عن الرسالة والوحي، والله أعلم.

قال: ويجوز أن يكون الله - تعالى - ذكر المؤمنين بهذه الآيات على ما لقي الرسول - عليه السلام - ممن كان الواجب [عليهم] - على ما عليه كانت عادتهم -: الإحسان إليه؛ وذلك أنه كان من عادة العرب المعونة والنصرة لمن قاربهم في النسب أو القبيلة، وإن كان ظالماً، ثم إن الله - سبحانه وتعالى - أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم من قريش، فأظهروا معه من العداوة ما أظهروا حتى هموا بقتله، وجعل محمداً صلى الله عليه وسلم حين أرسله حجة يظهر لليهود والنصارى وجميع أهل [الكتاب] ما ذكر في كتابهم من نعته وصفته، فقابلوه بذلك ما قابلوا من سوء الصنيع وإظهار العداوة، وكان هذا كله - والله أعلم - حجة وعلامة، يعلم بها أن رسالته - عليه السلام - لم تظهر بمعاونة أحد؛ بل بنصر الله وفضله وتأييده، والله المستعان.

السابقالتالي
2 3 4