الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } * { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } * { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ رِضْوَانِ ٱللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }

قوله - عز وجل -: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيِّنَاتِ } يحتمل وجهين:

أحدهما: أي: أرسلنا بما يبين ويوضح أنهم رسل الله، وأن تلك الآيات التي أتوا بها من عند الله لا باختراع من عندهم؛ لما هي خارجة عن وسع البشر.

والثاني: ما يبين صدق الرسل في خبرهم، وعدلهم في حكمهم، أو يبين ما لهم وما عليهم.

وقوله - عز وجل -: { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } ، وقال في آية أخرى:ٱللَّهُ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَانَ } [الشورى: 17]، ثم يحتمل { وَٱلْمِيزَانَ }: الموازين المعروفة التي بها تستوفى الحقوق فيما بين الناس، وبها يوفَّى وبها تحفظ حقوق الأموال التي بينهم وحدودها.

فإن كان المراد هذا فكانه قال: وأنزلنا معهم الكتاب الذي به يحفظ الدين وحدوده، والميزان الذي به يحفظ حدود الأموال، لا يزاد على الحق، ولا ينقص منه، والله أعلم.

وجائز أن يكون المراد بالميزان: الحكمة؛ إذ ذكره على إثر الكتاب؛ كقوله:وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ } [آل عمران: 48]؛ كأنه يقول - والله أعلم -:وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ } [النساء: 113]؛ فيكون الكتاب ما يحفظ حدود الأفعال والأقوال، وتكون الحكمة ما يقوم الناس بها بالقسط.

أو أن تكون الحكمة ما أودع في الكتاب من المعاني.

وقال الحسن في قوله:وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ } [آل عمران: 48]: إنهما واحد.

ثم قوله - عز وجل -: { لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } يخرج على وجهين:

أحدهما: أنزل ما ذكر من الكتاب والميزان؛ ليلزم الناس القيام بالعدل، وقد ألزمهم ذلك بما أنزل عليهم من الكتاب والميزان وبين الحدود.

والثاني: أنزل ما ذكر؛ ليقوم الناس بالقسط؛ على وجود القيام بالعدل.

فإن كان المراد منه الوجود فهو راجع إلى خاص من الناس، وإن كان على الإلزام فهو راجع إلى الكل وهو كقوله تعالى:وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]، فإن كان على وجود العبادة فهو يرجع إلى خاص من الناس، وإن كان المراد بقوله:إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]، أي: لأمرهم وإلزامهم فهو للكل؛ فإنه قد خلقهم ليأمرهم ويلزمهم، وقد أمرهم وألزمهم، والله أعلم.

وقوله - عز وجل -: { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } ، خص الله تعالى ذكر الحديد بما جعل فيه من البأس من بين غيره من الأشياء، وإن كان يشاركه غيره في احتمال الأذى والضرر به مما يطعن به فينفذ ويضرب به، ويستعمل في الحروب والقتال؛ [لأمرين:]

أحدهما: أنه هو الكامل في الظفر والنفاذ والجرح، وإن كان قد يتحقق من غيره؛ ولذلك اعتاده الناس آلة القتال والحرب؛ فيكون البأس فيه أشد.

والثاني: لما يتحصن به باتخاذ الدرع؛ لقوله:وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ }

السابقالتالي
2 3 4