الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } * { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } * { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } * { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } * { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ }

قوله - عز وجل -: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } ، هذا يخرج على وجهين:

أحدهما: يقول: كم أهلكنا قبلهم من قرن، لم يملكوا دفع ذلك عن أنفسهم، ولا الانتصار من ذلك، فكيف يملك قومك دفع ما ينزل بهم لو أصروا على التكذيب.

والثاني: يقول: قد أهلك الذين كانوا قبل قومك: الذين كذبوا رسلهم، أهلكوا إهلاك عقوبة وتعذيب، والذين صدقوا أهلكوا بآجالهم، لا هلاك عقوبة، وقد كانوا جميعا: - المصدقين والمكذبين - سواء في هذه الدنيا، وفي الحكمة التفريق بينهما، فدل أن هناك دارا أخرى يفرق بينهما، والله أعلم.

وقوله - عز وجل -: { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ }:

قال أبو عوسجة: { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ }: أي: صاروا في البلاد هل من مفر؟!.

وقال القتبي: { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } ، أي: طافوا، وتباعدوا، { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } أي: هل يجدون من الموت محيصا؟ أي: مفرا.

ويحتمل: أي: تقلبوا في البلاد في تجاراتهم، فلا يجدون ملجأ يرد به هلاكهم.

يوعد بما ذكر أهل مكة أنهم لم يجدوا محيصا فكيف تجدون أنتم؟!

وقوله - عز وجل -: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } يحتمل وجوها:

أحدها: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ } أي: عظة ممن كان له قلب.

والثاني: فيما ذكر من إهلاك الأمم الخالية، وذهاب آثارهم بتكذيبهم الرسل لذكرى لمن ذكر.

والثالث: أي: فيما ذكروا من استواء المحسن والمفسد في هذه الدنيا، والصالح والطالح - لذكرى لمن كان له قلب أن هنالك دارا يميز فيها بينهما.

وقوله: { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } ، أي: عقل وفهم.

أو لمن كان له قلب ينتفع به في التأمل والنظر.

وإنما كنى بالقلب عن العقل؛ لأن الناس اختلفوا:

بعضهم قالوا: إن القلب محل العقل.

وقال بعضهم: محله الرأس، لكن نوره يصل إلى القلب؛ فيبصر القلب الأشياء الغائبة بواسطة العقل؛ فلذلك كنى بالقلب عن العقل؛ لمجاورة بينهما، وهو سائغ في اللغة.

وقوله - عز وجل -: { أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } ، أي: يستمع وهو شاهد سمعه وقلبه، وأصله: أن القلب جعل للوعي والحفظ بعد الإدراك، والإصابة.

ثم أصل ما يقع به العلم والفهم شيئان:

[الأول:] التأمل والنظر في المحسوس.

والثاني: أن يلقي إليه الخبر وهو يستمع له، فكأنه يقول - والله أعلم -: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب يطلب الرشد والصواب، وينظر، ويعي، ويحفظ.

أو { أَلْقَى ٱلسَّمْعَ } ، أي: يستمع بما ألقي إليه وهو شاهد السمع والقلب؛ فتكون الذكرى لمن اختص بهذين، أو ينتفع به هذان الصنفان بالتأمل، فيرى بالعقل محاسن الأشياء ومساوئها.

السابقالتالي
2 3