الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } * { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ }

قوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ }.

[الآية ترد على المتقشفة؛ لأنه نهانا ألا نأكل طيبات ما أحل الله لنا] وهم يحرمون ذلك، وقال الله - عز وجل -:قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ } [الأعراف: 32]، ثم لا فرق بين تحريم ما أحل الله لنا من الطيبات، وتحليل ما حرم الله علينا من الخبائث، ثم يلزمهم أن يحرموا على أنفسهم التناول من الخبز والماء، وهما من أطيب الطيبات؛ ألا ترى أن المرء قد يمل ويسأم من غيرهما من الطيبات إذا كثر ذلك، ولا يمل ألبتة من الخبز والماء؛ دل أنهما من أطيب الطيبات، إلا أن يمتنعوا من التناول من غيرهما؛ إيثاراً منهم غيرهم على أنفسهم؛ لما يلحق القوم من المئونة في غيرهما من الطيبات ولا يلحق في الخبز والماء؛ لأنهما موجودان، يجدهما كل أحد ولا يجد غيرهما من الطيبات، إلا من تحمل مؤنة عظيمة، فإن كان تركهم التناول منها لهذا الوجه، فإنه لا بأس.

وبعد: فإن الله - تعالى - جعل الأطعمة والأشربة والفواكة للبشر في الوقت والحال التي تطيب أنفسهم بها وتلذ؛ لأنه لم يحل لهم في أول خروجها من الأرض والنخيل، إنما أحل لهم بعد نضجها وينعها واتخاذها خبزاً، وبلوغها في الطيب نهايته، وجعل للبهائم ذلك في أول ما يخرج، فإذا كان البشر خصوا بذلك لم يجب أن يحرم ذلك، ويبطل ذلك التخصيص والتفضيل، والله أعلم.

فإن قيل: إنما لم يتناول منها لما يعجز عن شكر الله؛ لذلك يقتصر على ما يُقيم الرمقَ منه.

قيل له: فيجب ألا يتزوج من النساء إلا أدونهن جمالا وأكبرهن سنّاً؛ لأنها تصونه عن الفجور، فإن لم يكن في تزويج العجائز والقبائح وترك الشبان الحسان زهادة، فليس في أكل خبز الشعير وترك المحور والميدة زهادة، ولكن لما خاف أن يدخله الرغبة في طيب الطعام في شبهة مكسبه، فواجب عليه ألا يدخل في ذلك المكسب، وينزه نفسه عنه، ويقتصر على القوت الذي لا بد له منه.

وقيل: الآية نزلت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم: عمر وعلي وابن مسعود وعثمان ابن مظعون والمقداد وسالم، رضوان الله عليهم أجمعين. وهولاء حرموا على أنفسهم الطعام والنساء، وهموا أن يقطعوا مذاكيرهم، وأن يلبسوا المسوح ويدخلوا الصوامع؛ فيترهبوا فيها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتى منزل عثمان فلم يجدهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة عثمان: " " أَحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْ عُثْمَانَ وَأَصْحَابِهِ؟ " قالت: ما هو يا رسول الله؟ فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بالذي بلغه، فكرهت أن تكذب النبي صلى الله عليه وسلم أو تبدي على زوجها؛ فقالت: إن كان عثمان أخبرك فقد صدقك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قُولي لِزَوْجِكِ إِذَا جَاءَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَسْتَنَّ بِسُنَّتِنَا وَيَأْكُلْ ذَبِيحَتَنَا "

السابقالتالي
2