قوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ }. أجمع أهل التأويل على أن العقود - هاهنا - هي العهود، ثم العهود على قسمين: عهود فيما بين الخلق، أمر الله - عز وجل - بوفائها. وعهود فيما بينهم وبين ربهم، وهي المواثيق التي أخذ عليهم، من نحو: الفرائض التي فرض الله عليهم، والنذور التي يتولون هم إيجابها، وغير ذلك، أمر عز وجل بوفائها. وأما العهود التي فيما بينهم من نحو: الأيمان وغيرها، أمر بوفاء ذلك إذَا لم يكن فيها معصيَة الرب؛ كقوله تعالى:{ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا... } الآية [النحل: 91] أمر هاهنا بوفاء الأيمان، ونهى عن تركها ونقضها، ثم جاء في الخبر أنه قال: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ [عن] يَمِيْنَهُ " أمر فيما فيه معصية بفسخها، وأمر بوفاء ما لم يكن فيه معصية، ونهى عن نقضها بقوله تعالى:{ وَلاَ تَنقُضُواْ... } الآية [النحل: 91]. وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: { أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ }: وهي العهود، وهو ما أحل وما حرم، وما فرض وما حدَّ، في القرآن كله، وهو ما ذكرنا. وقيل: إن العقود التي أمر الله - تعالى - بوفائها هي العهود التي أخذ الله - تعالى - على أهل الكتاب: أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويأخذوا بشرائعه، ويعملوا بما جاء به، وهو كقوله:{ وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } [آل عمران: 187]، وكقوله:{ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي } [الآية] [المائدة: 12]. فالخطاب لهم على هذا التأويل؛ لأنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به. وقوله - عز وجل -: { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ }. قال بعضهم: هي الوحوش، وهو قول الفراء؛ ألا ترى أنه قال: { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }؟!. وقال الحسن: هي الإبل والبقر والغنم. وقال آخرون: البهيمة: كل مركوب. لكن عندنا: كل مأكول من الغنم، والوحش، والصيد، وغيره، وإن لم يذكر. دليله، ما استثنى: { إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }؛ كأنه قال: أحلت لكم بهيمة الأنعام والصيد إلا ما يتلى عليكم من{ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ } الآية [المائدة: 3] { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }. دل قوله: { غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ } على أن الصيد فيه كالمذكور، وإن لم يذكر؛ لأنه استثنى الصيد منه، وأبداً: إنما يستثنى الشيء من الشيء إذا كان فيه ذلك، وأما إذا لم يكن؛ فلا معنى للاستثناء، فإذا استثنى الصيد دل الاستثناء على أن الصيد فيه، وإن لم يذكر.