الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } * { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ } * { فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } * { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ وَأَقْسِطُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } * { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }

قوله - عز وجل -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ } جميع أهل التأويل أو عامتهم على أن الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق، وإلى قوم سواهم؛ لجباية الصدقات، وكان بينه وبين أولئك القوم عداوة في الجاهلية، فخرجوا يتلقونه، فخافهم، فرجع، فقال: إن القوم قد منعوا الصدقات، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم بعد ذلك خالد بن الوليد لجباية الصدقات، فوجدهم يصلون ويعملون الطاعات، واجتمعوا وجمعوا له الصدقات وجبوها وسلموها إليه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فنزل قوله - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ } لكن إن كان ما ذكروا فلم يكن في ذلك النبأ التثبت؛ لأن الآية نزلت بعد نبأ الرجل.

وفي الآية الأمر بالتثبت في نبأ الفاسق فيما يحدث من الأمور من بعد؛ فدل أن الآية نزلت لبيان الحكم في نبأ الفاسق ابتداء، والله أعلم.

ولأنه يحتمل أن يكون ذلك الرجل منافقاً ولم يأمر الله - تعالى - بالتثبت في خبر المنافق، ولم يشرع ذلك؛ لأن النفاق يكون في الضمير فلا يظهر ذلك؛ فأما الفسق فإنه يظهر فأمر لنا بالتثبت فيه؛ فدل أن الآية لم تنزل في ذلك الرجل؛ إذ لا يحتمل عن المنافق أن يزور على المسلمين مثل ما ذكر منه دل أن ما قاله أهل التأويل فيه وهم.

ثم في الآية دلالة قبول خبر الواحد إذا كان عدلا؛ لأنه لو لم يقبل خبره إذا كان عدلا لم يكن لذكر الفسق فائدة سوى الشتم، والشتم سفه؛ فلا يجوز أن يوصف الله - تعالى - [به] فدل ذكر الفسق على أن هذا الحكم وهو رد الشهادة مختص باسم الفسق، وأن العدل لا يشاركه فيه حتى [لا يكون] ذكر الفسق سفهاً لما تعلق به بيان حكم شرعي يختص بالفاسق، ولا يعرف ذلك دون ذكره، فأما متى كان الحكم عامّاً في الفاسق والعدل عند الانفراد، فكان ذكر الفاسق مع شتمه لا يليق بالحكمة؛ فدل ما ذكرنا، والله أعلم.

وقوله - عز وجل -: { أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } أي: تصيبوا قوماً بجهالة في الظاهر بسبب تهمة الفسق، فأمّا في الحقيقة فإنه يجوز أن تصيب ذلك بخبر الواحد، لكن الأحكام وقبول الأخبار فيما بين الخلق لم توضع على الحقائق، وإنما وضعت على الظواهر، وكذلك قبول الشهادات، والحكم بها، وجميع الشرائع التي جعلت في الناس إنما هو على الظواهر من الأحوال والأمور، فأما على إصابة حقيقة ذلك فلا؛ إذ قد يجوز أن يحكم الحاكم ويقضي بقتل إنسان ويقطع يده بشهود عنده؛ لما ظهرت عنده عدالتهم، ولم يكن - في الحقيقة - كذلك، وعلى ذلك قول يعقوب - عليه السلام - لبنيه:

السابقالتالي
2 3 4 5 6