الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } * { قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } * { مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ }

قوله - عز وجل -: { ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ } يذكرهم عظيم نعمه في تسخير البحار لهم مع أهوالها وكثرة أمواجها، وامتناعها عن منافع الخلق، صيرها بلطفه ورحمته لهم كسائر البقاع في الوصول إلى ما فيها من الجواهر واللآلئ بالغوص فيها، والخوض والاصطياد؛ لما فيها من أنواع الصيد، وغير ذلك من الأشياء، بحيل علمهم، وأسباب جعل لهم، حتى يصلوا إلى ما فيها من أنواع الجواهر والأموال النفيسة، والله أعلم.

وسخرها لهم - أيضاً - حتى عبروا البحر ومروا هم عليه بسفن أعطاهم، وحيل علمهم، حتى قدروا على عبوره والمرور عليه؛ ليصلوا إلى قضاء حوائجهم التي تكون في البلدان النائية، وهو ما قال: { لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ }.

ثم قوله - تعالى -: { بِأَمْرِهِ } يحتمل أن يكون عبارة عن تكوينه؛ أي: بما كونه [و]أنشأه كذلك، كقوله - تعالى -:إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82].

والثاني: يحتمل { بِأَمْرِهِ } أي: بالأمر الذي له على العباد وسائر خلائقه.

ويحتمل: { بِأَمْرِهِ } أي: بإذنه.

وقوله - عز وجل -: { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي: لكي يلزمكم الشكر بذلك، أو ما ذكر فيه من الوجوه، والله أعلم.

وقوله - عز وجل -: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } أي: سخر لهم ما في السماوات من الملائكة، والشمس، والقمر، والنجوم، وغيرها، وما في الأرض من الأشجار، والنبات، والبهائم، والدواب، حتى استعملوها كلها في منافعهم وحوائجهم، كما استعملوا أملاكهم التي تحويها أيديهم بتسخير الله - تعالى - إياهم ذلك كله، والله أعلم.

وقوله - عز وجل -: { جَمِيعاً } أي: جميع ذلك من الله - تعالى - أخبر أنه سخر جميع ما في هذين في السماوات والأرض، ثم أخبر { إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } وقد ذكرنا جهة الآية في ذلك في غير موضع، والله أعلم.

وقوله - عز وجل -: { قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ } أمر الله - عز وجل - للمؤمنين بالعفو والصفح عمن أساء إليهم وظلمهم حتى أمرهم بالعفو والمغفرة عمن ظلمهم وأساء إليهم من الكفرة؛ ليعلم عظيم موقع العفو والصفح عن المظلمة والإساءة عند الله، وما يكون لذلك من الثواب الجزيل، والله أعلم.

فإن قيل: إن هذه الآيات إنما نزلت بمكة، ومن أسلم من أهل مكة بمكة كانوا مستخفين مقهورين في أيدي الكفرة، ثم لا يتهيأ لهم الانتصار منهم والانتقام عن مساويهم، وإنما يؤمر المرء بالعفو عن مظلمة من ظلمه وأساء إليه عند مقدرة الانتقام والانتصار، فأما من لا يكون على مقدرة من ذلك فلا معنى للأمر له بذلك؛ إذ هو عاجز عن ذلك، فيكون الأمر بالعفو والصفح عنهم - وإن كان أهل الإسلام منهم مقهورين مغلوبين في أيدي أولئك الكفرة على ما ذكرتم - لوجهين:

أحدهما: أنه أمرهم بذلك ليتقربوا بذلك؛ إلى الله - تعالى - ويجعلوا ذلك وسيلة وقربة فيما بينهم وبين ربهم، وإن لم يكن لهم مقدرة الانتقام والانتصار منهم؛ ليكون العفو عنهم بحق القربة، لا بحق التذلل والخشوع؛ إذ يعفو كل عن اختيار وطوع، ويصير على ذلك ابتغاء لوجه الله - تعالى - ويترك الجزع في نفسه والمخاصمة لو قدر على الانتقام، وهو ما أمر رسوله - عليه السلام - بالهجرة إلى المدينة بعدما أخبره أنهم يريدون أن يقتلوه أو يخرجوه؛ حيث قال:

السابقالتالي
2