الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } * { وَمَا تَفَرَّقُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } * { فَلِذَلِكَ فَٱدْعُ وَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } * { وَٱلَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ٱسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ }

قوله: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً } الدين يذكر، ويراد به الجزاء، وهو قوله:مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة: 4] أي: يوم الجزاء، أو يذكر ويراد به الحكم؛ كقوله - تعالى - خبراً عن يوسف - عليه السلام -:مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ } [يوسف: 76] أي: في حكم الملك، ويذكر ويراد به المذهب والمعتقد؛ كقوله:لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [الكافرون: 6]، وقوله - تعالى -:إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } [آل عمران: 19]، فكأن المعنى من قوله: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً }: هو المذهب وما يعتقد، وقد ذكر الدين معرفاً بالألف واللام وأنه للجنس، فيكون كأنه قال: شرع لكم من الأديان جملة الدين الذي وصى به نوحاً ومن ذكر من الأنبياء، وهو التوحيد لله - تعالى - والعبادة له، والأنبياء والرسل جميعاً إنما بعثوا للدعاء إلى توحيد الله، وجعل العبادة له، وإن اختلفت شرائعهم وأحكامهم، وذلك قوله:لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [المائدة: 48].

ومن الناس من يقول: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ } أي: شرع لكم الدين، ويجعل { مِّنَ } صلة زائدة فيه؛ أي: شرع لكم الدين الذي وصى به نوحاً ومن ذكر، والوجه فيه ما ذكرنا.

فإن قيل: [ما] معنى تخصيص نوح ومن ذكر من الأنبياء هنا، والكل بعثوا للدعاء إلى هذا الدين، وقد وصى الكل بهذا الدين.

فنقول: قال بعضهم: إنما خص نوحاً ومن ذكر بهذا؛ لأن التحليل والتحريم لم يكن قبل زمن نوح عليه السلام، وإنما جاء ذلك في زمن نوح؛ لذلك خصّ نوحاً بما ذكر.

ويحتمل أن يكون ذكر هؤلاء لا على تخصيصهم بذلك من بين غيرهم من الأنبياء، ولكن ذكر بعضاً هاهنا، وترك ذكر البعض، ليس أنه شرع له ما وصى به نوحاً ومن ذكر من الأنبياء ولم يشرع له ما وصى به غيرهم؛ بل شرع له ما وصى به هؤلاء وغيرهم من الدين؛ كقوله - تعالى -:فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام: 90] ذكر بعض هؤلاء وغيرهم، ثم أمره أن يقتدي بما هم عليه؛ دل أن ذكر البعض في موضع ليس للتخصيص، لما ذكر البعض في موضع آخر، والكل في موضع آخر، والله أعلم.

ويحتمل تخصيص هؤلاء بالذكر لمعنى لم يطلعنا الله على ذلك المعنى، كما خص إبراهيم بالصلاة عليه على ما أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: " كما صليت على إبراهيم " لمعنى لم يطلعنا على ذلك، والله أعلم.

وقوله: { وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } يحتمل وجهين:

أحدهما: { وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } ، أي: في عبادة الله - تعالى - أي: اعبدوه جميعاً.

والثاني: { وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } أي: في الدين الذي ذكر، وهو التوحيد، والله أعلم.

السابقالتالي
2 3 4