الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱللَّهُ يَقْضِي بِٱلْحَقِّ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } * { أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي ٱلأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ } * { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }

قوله - عز وجل -: { وَٱللَّهُ يَقْضِي بِٱلْحَقِّ }.

قال أهل التأويل: أي: الحكم بالحق. والقضاء المذكور في الكتاب يخرج على وجوه:

أحدها: { يَقْضِي } أي: يأمر؛ كقوله تعالى:وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [الإسراء: 23]؛ وكقوله:إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً } [الأحزاب: 36] أي: إذا أمر أمراً، يقول: { وَٱللَّهُ يَقْضِي بِٱلْحَقِّ } أي: يأمر بالحق، { وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ } أي: لا يملكون الأمر بالحق، فكيف تعبدون من دونه؟!

والثاني: القضاء: الوحي والخبر؛ كقوله تعالى:وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ } [الإسراء: 4] أي: أوحينا إليهم، فكأنه يقول: والله يوحي بالحق ويخبر به، والذين يدعون من دونه لا يملكون الوحي ولا الخبر، فكيف اخترتم عبادتهم على عبادة من يوحي بالحق ويخبر؟! والله أعلم.

والثالث: القضاء هو الخلق والإنشاء؛ كقوله تعالى:فَقَضَٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ } [فصلت: 12] أي: خلقهن، فيكون قوله على هذا { وَٱللَّهُ يَقْضِي بِٱلْحَقِّ } ، أي: يخلق بالحق، والذين يدعون من دونه لا يخلقون شيئاً، وقد يعلمون استحقاق العبادة إنما يجوز بالخلق والإنشاء؛ وهو كقوله تعالى:أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [النحل: 17]،خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ ٱلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ } [الرعد: 16] يقول: خلق من يدعون دونه كخلقه حتى تشابه ذلك عليهم فعبدوهم؛ إذ يعلمون أن من خلق ليس كمن لم يخلق، وقد تعلمون أنها لم تخلق شيئاً، فكيف عبدتموها؟! والله أعلم.

ثم أقول: أصل التأويل { يَقْضِي بِٱلْحَقِّ } أي: يحكم بالحق في الدنيا بالآيات والحجج ما عرف كل أحد أنها حجج وآيات وبراهين، والحكم بما ذكرنا حكم بالحق، والله أعلم.

والثاني: أي يحكم بالحق في الآخرة وهو الشفاعة، أي: لا يجعل الشفاعة لمن يعبدون على رجاء الشفاعة؛ كقولهم:هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [يونس: 18]، ولكن إنما يجعل لمن ارتضى؛ كقوله تعالى:وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } [الأنبياء: 28]، والله أعلم.

وقوله - عز وجل -: { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ }.

روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: السميع للمؤمن، أي: المجيب للمؤمن، والبصير لعقاب أولئك.

وقيل: السميع لأقوالهم، البصير بأفعالهم.

وجائز أن يكون قوله - تعالى -: { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } صلة ما تقدم من قوله: { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي ٱلصُّدُورُ } يقول: السميع بما يكون منهم ظاهرا من قول أو فعل، والبصير بما أخفوا في قلوبهم وتكن صدورهم، يخبر بهذا؛ ليكونوا أبداً مراقبين حافظين أنفسهم ما ظهر وما خفي، والله أعلم.

وقوله - عز وجل -: { أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً }.

هذا يخرج على وجهين:

أحدهما: ما قال الحسن: إنهم لو ساروا فنظروا في آثار من كان قبلهم من مكذبي الرسل، لكان لهم في ذلك زجر ومنع عن مثل صنيع أولئك.

السابقالتالي
2