الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً }

قوله - عز وجل -: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ }.

[اختلف في قوله: { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ } ] قيل: لا تدنوا مكان الصلاة وأنتم سكارى، وكذلك الجنب لا يدنو مكان الصلاة؛ وهو قول ابن مسعود، رضي الله عنه.

وقيل: قوله: { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ } نهي عن الصلاة في حال السكر؛ روي أن رجلاً صنع طعاماً فدعا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليّاً، وسعد بن أبي وقاص، فأكلوا، وسقاهم خمراً، وذلك قبل أن تحرم؛ فحضرت صلاة المغرب، فأمهم رجل منهم فقرأ:قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ } [الكافرون: 1] بطرح اللاءات؛ فنزل قوله - تعالى -: { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ }.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ وَهُوَ لاَ يَعْقِلُ صَلاَتَهُ ".

وفي الآية دلالة: أن في الصلاة قولا فرضاً، نهي عن قربانها في حال السكر؛ مخافة تركه، أو نهي عن قربانها في حال السكر؛ خوفاً أن يدخل فيها قولا ليس منها؛ وفي ذلك دليل فساد الصلاة بالكلام عمداً كان أو خطأ؛ لأن السكران لا يفعل ذلك على العمد، ولكن على الخطأ، والأصل في هذا: أنه لم ينهه عن فعل الصلاة في حال السكر لنفس الصلاة، ولكن فيه نهي عن السكر، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " لاَ صَلاَةَ للْعَبْدِ الآبِقِ، وَلاَ لِلْمَرْأَةِ النَّاشِزَةِ " ليس النهي فيه عن الصلاة، ولكن النهي عن الإباق والنشوز نفسه، وهكذا كل عبادة نهي عنها بأسباب تتقدم، فالنهي إنما يكون عن تلك الأسباب، لا عن العبادة التي أمر بها؛ لأن الإباق والنشوز والسكر ليسوا بالذي يعملون في إسقاط ذلك الفرض وتلك العبادة.

وفي الآية دلالة أن السكران مخاطب بقوله: { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ } نهي عن قربان الصلاة في حال السكر، فالنهي إنما وقع في حال السكر، فإذا كان مخاطباً عمل طلاقه ونفذت عقوده؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى:إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [المائدة: 91] فلو لم يكن عليهم ذكر في حال السكر لم يكن ليصدهم عن ذكر الله معنى ولا ذكر عليهم، دل أنه مخاطب، ولهذا ما قال أبو يوسف - رحمه الله -: إنه إذا ارتد عن الإسلام يكون ارتداده ارتداداً؛ [و] لما نفذ طلاقه وسائر عقوده وفسوخه، فعلى ذلك الارتداد.

وعلى قول أبي حنيفة - رحمه الله - لا يصير مرتدّاً؛ استحساناً، ليس كسائر العقود والفسوخ؛ لأن سائر العقود يتعلق جوازها باللسان، وإن كان رضا القلب شرطاً فيها، وأما الإيمان والكفر فإنما يكون بالقلب، وإن كانت العبادة باللسان تكون شرطاً فيما بين الخلق، فإذا كان كذلك فإذا سكر يُذْهِبُ السكرُ القلبَ؛ فجعل كأنه لم ينطق به، وإما كان سائر العقود تعلقها باللسان، فإذا نطق به جاز، والله أعلم.

السابقالتالي
2 3 4 5