الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذٰلِكَ فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذٰلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَاناً مُّبِيناً } * { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي ٱلسَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } * { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }

قوله - عز وجل -: { يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ }.

قيل في أحد التأويلين: كان يريد كل أحد منهم أن يأتي إلى كل رجل منهم بكتاب: أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو كقوله - سبحانه وتعالى -:بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً * كَلاَّ } [المدثر: 52-53]، وكقوله - تعالى -:وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ } [الإسراء: 93].

وقيل: سألوا أن يأتيهم بكتاب جملة مثل التوراة؛ مثل قولهم:لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [الفرقان: 32] كما أنزلت التوراة على موسى جملة واحدة؛ لأنهم يقولون: إن هذا القرآن من اختراع محمد واختلاقه؛ لأنه لو كان من عند الله نزل؛ لنزل جملة كما نزلت التوراة جملة غير متفرقة؛ فأخبر أنهم: { سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذٰلِكَ فَقَالُوۤاْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً } ، وقد سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم مثل سؤال أولئك موسى، وهو قوله:لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا } [الفرقان: 21] يعزي - عز وجل - رسوله صلى الله عليه وسلم ويصبره على أذاهم، يقول - والله أعلم -: إنهم سألوا آيات على رسالته، فأتى بها، فلم يؤمنوا به، يخبر أن سؤالهم سؤال تعنت، لا سؤال استرشاد؛ لأن سؤالهم لو كان سؤال استرشاد - لكان إذا أُتُوا بها قبلوها؛ ولذلك أخذهم العذاب بقوله - تعالى -: { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ }؛ لأنهم كانوا يسألون سؤال تعنت، لا سؤال رشد.

وفي الآية دلالة أن المسئول لا يلزمه الدليل على شهوة السائل وإرادته؛ ولكن يلزمه أن يأتي بما هو دليل في نفسه.

وفيه دلالة له - أيضاً - أن المجوس ليسوا من أهل الكتاب؛ لأنه لما قال: { يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ... } - لم يخطر ببال أحد أنه أراد المجوس بقوله: { أَهْلُ ٱلْكِتَابِ } ، والله أعلم. فبطل قول من قال: بأنهم من أهل الكتاب، والله أعلم.

وقوله - عز وجل -: { فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ }.

الصاعقة: هي العذاب الذي فيه الهلاك، وقد ذكرناه فيما تقدم، وإنما أخذهم العذاب بكفرهم بموسى بعد ما أتاهم موسى صلى الله عليه وسلم بآيات الرسالة، لا بسؤالهم الرؤية؛ لأنه لو كان ما أخذهم [من] العذاب إنما أخذ بسؤال الرؤية، لكان موسى بذلك أولى؛ حيث قال:رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ } [الأعراف: 143]؛ فدل أن العذاب إنما أخذهم بتعنتهم وبكفرهم بعد ظهور الآيات لهم أنه رسول الله، وذلك قوله - تعالى -: { ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ } يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم عن شدة تعنتهم في تكذيب الرسل، وكثرة تمردهم وسفههم؛ ليصبر على أذى قومه، ولا يظن أنه أول مكذَّب من الرسل.

السابقالتالي
2