قوله: { فَٱسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ ٱلْبَنَاتُ وَلَهُمُ ٱلْبَنُونَ }. الاستفتاء والسؤال يخرج على أربعة أوجه: إن كان الاستفتاء والسؤال من عليم خبير لأهل الجهل يكون تقريراً وتنبيهاً إذا لم يكونوا أهل عناد، وإذا كانوا أهل عناد فهو تسفيه وتوبيخ لهم. وإذا كان الاستفتاء من جاهل مصدق طالب رشد لعليم خبير، يكون استرشاداً وطلب الصواب. وإذا كان من معاند مكابر، فهو يخرج على الاستهزاء به والسخرية؛ كقوله:{ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [الأنفال: 32] إنما قالوا ذلك استهزاء به. ثم ما ذكر من الاستفتاء لهؤلاء إنما يكون تسفيها منه لهم في قولهم: لله - عز وجل - ولد، والملائكة بنات الله سبحانه ونحوه من الفرية العظيمة التي لا فرية أعظم منها ولا كذب أكبر منه؛ لأن درك الأشياء ومعرفتها إنما يكون في الشاهد بأحد وجوه ثلاثة: أحدها: المشاهدة. والثاني: الخبر. والثالث: الاستدلال بما شاهدوا وعاينوا على ما غاب عنهم. ثم معلوم عندهم - أي: عند هؤلاء - أنهم لم يشاهدوا الله حتى عرفوا له الولد، ولا كانوا يؤمنون بالرسل حتى يكون عندهم الخبر بما قالوا ونسبوا إليه من الولد وغيره؛ إذ الخبر إنما يوصل إليه بالرسل، وهم لا يؤمنون بهم، ولا كانوا شاهدوا ما يستدلون على ما قالوا فيه ونسبوا إليه حتى دلهم ذلك على ذلك، فسفههم في قولهم الذي قالوا فيه وما نسبوا إليه، [و]إنهم كَذَبةٌ في ذلك؛ إذ أسباب العلم بالأشياء ما ذكرنا، ولم يكن لهم شيء من ذلك؛ ولذلك قال: { أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ ٱللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ، وقال - عز وجل -: { أَصْطَفَى ٱلْبَنَاتِ عَلَىٰ ٱلْبَنِينَ } يقول: أأختار لنفسي ما تأنفون أنتم عنه، وتنسبون إليه ما تستنكفون أنتم عنه، يسفههم في قولهم ونسبتهم إلى الله ما قالوا فيه ونسبوا إليه إلى آخر ما ذكر، والله أعلم. وفيه تصبير رسول الله على أذاهم وتركهم الإيمان به والاتباع؛ لأنه علمهم أنه خالقهم ورازقهم وقديم الإحسان إليهم [و]قالوا فيه ما قالوا. وقوله - عز وجل -: { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }. يحتمل قوله: { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } ، أي: ما لكم تحكمون بلا حجة ولا علم؟ وقوله - عز وجل -: { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ، أن هذا الحكم جور وظلم عظيم؛ كقوله:{ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } [النجم: 22]. وقوله - عز وجل -: { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ }. أي: لكم حجة وبيان على ما تزعمون وتقولون في الله سبحانه. وقوله: { فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي: ائتوا بكتاب من عند الله فيه ما تذكرون من الولد وغيره. وقوله: { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً }. قال عامة أهل التأويل: إن الجنة هم الملائكة؛ لقول أولئك الكفرة: إن الملائكة بنات الله، وما قالوا في قوله: { وَلَقَدْ عَلِمَتِ ٱلجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } ، أي: علمت الجن الذي وصفوا له بنين إنهم لمحضرون النار وعذاب الله، ويحاسبون، على قول مجاهد وغيره، والذين أولئك - أعني الأتباع - أنهم ملائكة الله، والله أعلم.