الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } * { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } * { وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } * { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ } * { هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } * { ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } * { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } * { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ } * { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ }

قوله: { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ }.

كأن أهل الجنة وأهل النار يكونون مختلطين، فيفرق هؤلاء؛ لأنهم يكونون في الابتداء مجموعين، وكذلك سمي: يوم الجمع، ويوم الحشر، ثم يفرق بينهم؛ كقوله:فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } [الشورى: 7]، وسمي: يوم الفصل.

وأصل قوله: { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ } ليس على الأمر في الحقيقة: أن افترقوا، ولكن على حقيقة التفريق على ما ذكر في آية أخرى:لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ } [الأنفال: 37]، وأصل الامتياز: الافتراق والاعتزال؛ وبه يقول أبو عوسجة والقتبي: إن الامتياز هو التفرق والتنحي.

وقوله: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ }.

يخرج على وجوه ثلاثة:

أحدها: عهد خلقة وبنية؛ إذ قد جعل الله تعالى في خلقة كل أحد وبنيته ما يشهد على وحدانيته، وجعل العبادة له ويصرفها عمّن دونه، فنقضوا ذلك العهد وصرفوا العبادة إلى غيره والألوهية.

والثاني: ما أخذ عليهم من العهد على ألسن الرسل والأنبياء من الأمر والنهي.

والثالث: ما جعل فيهم من الحاجات والشهوات التي يحملهم قضاؤها من عنده على صرف العبادة إليه والشكر له على نعمائه، وجعل الألوهية له، ويمنعهم صرفها إلى غيره وجعلها لمن دونه، فنقضوا ذلك كله وتركوه.

فإن قيل: ذكر عبادة الشيطان، ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان ولا يعبده، بل كل يفرّ عن عبادته ويهرب منه، لكنه يخرج على وجهين:

أحدهما: يحتمل أن يريد بالشيطان: المردة من الكفرة والأئمة منهم الذين صرفوهم عن عبادة الله، سموا شيطاناً؛ لما بعدوا عن رحمة الله؛ شطن، أي: بعد، كقوله:وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } [الأنعام: 112].

والثاني: نسب تلك العبادة إلى الشيطان وأضافها إليه، وإن كانوا هم لا يقصدون بعبادتهم الشيطان؛ لِمَا بأمره يعبدون ما يعبدون من الأصنام؛ فنسب إليه بالأمر، أو لما كان منه بداية الأمر، والله أعلم.

وقوله: { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }.

عداوته لنا ظاهرة بينة في كل شيء، حتى في المأكل والمشرب والمبلس؛ كقوله:فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا... } الآية [الأعراف: 20]؛ إذ هو يريد أن يوقعنا في المهالك فهو عدوّ لنا.

وقوله: { وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }.

أي: اعبدوني فإن عبادتي هي الصراط المستقيم.

وقوله: { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً }.

يحتمل قوله: { أَضَلَّ مِنْكُمْ } ، أي: أهلك، وهو ما أهلك من القرون المتقدمة نحو عاد وثمود وقروناً غير ذلك، والإضلال يكون الإهلاك في اللغة.

ويحتمل على حقيقة الإضلال عن الهدى.

ثم هو يخرج على وجهين:

أحدهما: أن قد رأيتم وعلمتم أنه قد أهلك الله خلقاً كثيراً بإبليس بما ضلوا به واستأصلهم لذلك؛ فكونوا أنتم يا معشر أهل مكة على حذر منه؛ لئلا ينزل بكم ما نزل بأولئك بضلالهم به - والله أعلم - { أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ }: أنه فعل ذلك بهم، يخرج على التعيير والتوبيخ لهم لترك هؤلاء النظر في أمر أولئك.

السابقالتالي
2 3