الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } * { وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } * { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } * { لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }

قوله: { وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ }.

في ذلك آيات من وجوه:

أحدها: آية القدرة على البعث والإحياء بعد الموت.

والثاني: آية الوحدانية له والألوهية.

والثالث: آية العلم الذاتي له والتدبير الأزلي.

أما دلالة البعث فهو ما ذكر من جعل ما هو ليل نهاراً، ومن جعل ما هو نهار ليلا بعد ذهاب أثر هذا بكليته حتى لا يبقى منه شيء؛ ومجيء الآخر وانتزاع هذا من هذا وإدخاله في الآخر دلالة أنه قادر بذاته، لا يعجزه شيء، وله قدرة ذاتية لا مكتسبة مستفادة، فمن قدر على هذا قادر على الإحياء بعد الموت؛ إذ الإحياء بعد الموت ليس بأبعد مما ذكرنا من جعل الليل نهاراً وجعل النهار ليلاً، والأعجوبة في هذا إن لم تكن أكثر - أعني: في جعل الليل نهاراً وجعل النهار ليلا وإدخال أحدهما في الآخر - ليست بدون الإحياء بعد الموت، فإذا كان كذلك دل أنه قادر بذاته لا بإقدار من غيره؛ فلا يعجزه شيء، ولا قوة إلا بالله.

وأما دلالة الوحدانية فهو إنشاء الدهر من أول إنشائه إلى آخر ما ينتهي إليه، وإجراؤه على مجرى واحد وسنن واحد من الليل والنهار وإدخال هذا في هذا، وهذا في هذا - دلالة أنه فعل واحد؛ إذ لو كان فعل عدد، لكان إذا أتى أحدهما بالليل غلب على الآخر، فلا يقدر المغلوب على إتيان النهار بعد ذلك وغلبه صاحبه وقهره، وكذلك منشئ النهار إذا غلب على منشئ الليل لهم به على إتيانه بالآخر وغلبه عليه، ويمنع كل واحد منهما صاحبه عن إدخال شيء مما أنشأه هو فيما أنشأه الآخر، فإذا لم يكن ما ذكرنا دل أنه واحد وهو ردّ على الثنوية.

وأما دلالة العلم الذاتي والتدبير الأزلي هو إجراء الدهر من أول ما أنشأه على تقدير حاجة أهله - أعني: حاجة أهل الدهر - وعلى تقدير منافعهم واتساقه على أمر واحد على غير تغيّر وتفاوت يقع في ذلك، أو تفاضل إلى ما ينتهي إليه وينتهي حاجتهم ومنافعهم - دل أنه كان لم يزل عالماً بحوائجهم ومنافعهم حيث أجرى الدهر على تقدير حوائجهم وتدبير منافعهم، وأن له علماً ذاتيّاً وتدبيراً أزليّاً لا علماً مكتسباً ومستفاداً، وأن له القدرة والسلطان حيث لم يقدر أحد أن يدفع ظلمة الليل عن نفسه إذا احتاج إلى النهار، ولا ملك دفع النهار إذا وقعت الحاجة في الليل، ولا [يقدر] أحد أن يأتي بأحدهما مكان الآخر بل في وقت آخر؛ بل أظلم الليل والخلائق كلهم، وستر عليهم كل شيء شاءوا أو أبوا، وأضاء لهم النهار على كل مستور عليهم، وإداؤهم على كل مختلف شاءوا أو أبوا - دل أنه بالقدرة الذاتية كان ذلك والسلطان الذاتي لا مكتسب مستفاد؛ إذ ذا علم كل ذاتي لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء في حال من الأحوال، وهذا يبطل قول الفلاسفة: إن العقل دراك بنفسه كالنار حارة بطبعها، محرقة بذاتها، فلو كان يدرك بنفسه، لكان لا جائز أن يكون ولا درك هنالك، أو يشبه عليه شيء بوجه من الوجوه، فإذا حيل بينه وبين الدرك دل أنه دراك بغيره فيدرك على قدر ما تجلى له وانكشف، والله أعلم.

السابقالتالي
2 3 4 5