الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } * { وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } * { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ }

قوله: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } إلى آخر ما ذكر - فيه فوائد من الحكمة:

أحدها: أنه جعل - عز وجل - طبع الماء مما يلائم ويوافق طباع هذه الثمرات على اختلاف جواهرها وألوانها؛ حتى يكون حياة كل شيء منها وقوامه بهذا الماء، وكذلك جعل طبع هذا الماء ملائماً موافقاً طباع جميع الخلائق من البشر والدواب والطير والوحش وجميع الحيوان، على اختلاف جواهرهم وأصنافهم وغذائهم، حتى صار هو غذاء وحياة لهم وقياما به؛ ليعلم أن من ملك هذا وقدر توفيق هذا - على اختلاف ما ذكرنا من الجواهر والأغذية - وتدبيرَهُ، لا يعجزه إنشاء شيء لا من شيء، ولا يخفى عليه شيء، وفي ذلك دلالة البعث: أن من بلغت قدرته وتدبيره وعلمه هذا المبلغ لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء.

والثاني: أنه أنشأ ما ذكر من مختلف الأشياء والجواهر بهذا الماء، وجعله سبباً لحياة ما ذكر من البشر والدواب وغيره، من غير أن يكون في ذلك الماء الذي أنشأ ذلك منه، وجعله سبباً لحياتهم من أثر ذلك فيه أو من جنسه؛ ليعلم أنه لم يكن أنشأ هذه الأشياء بهذا الماء، ولا جعله سبباً لها على الاستعانة به والتقوية، بل إعلاماً للخلق أسباب مطالب الغذاء والفضل لهم؛ إذ لو كان على الاستعانة وجعله سبباً له في إنشاء ذلك، لكان يكون تلك الأشياء المنشأة مشاكلة للماء مشابهة له؛ دل أنه جعل ذلك سبباً للخلق في الوصول إلى ما ذكرنا من الأغذية لهم من غير أن يروا أرزاقهم من تلك الأسباب والمكاسب ولكن من فضل الله.

والثالث: أنشأ هذه الفواكه والثمرات مختلفة ألوانها وطعمها؛ لما علم من البشر من الملالة والسآمة من نوع واحد ولون واحد؛ ليتم نعمه عليهم ليتأدّى بذلك الشكر عليها، والله أعلم.

وقوله: { وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ }.

قال بعضهم: أنشأ الجبال أيضاً مختلفة من بيض وحمر وغرابيب، كما أنشأ الثمرات والدواب والحيوان كلها مختلفة.

وقال بعضهم: ذلك وصف، وصفها بالسواد للطرق التي أنشأها في الجبال ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كاختلاف الجبال والثمار، وكذلك: { وَغَرَابِيبُ } جمع غربيب، وهو الشديد السواد، يقال: أسود غربيب؛ وهو [قول] القتبي وأبي عوسجة، ورجل غربيب الشعر، أي: أسود الشعر، ومأخذه من الغراب لأنه أسود، والجدد: الخطوط والطرائق في الجبال.

وقال أبو عوسجة: الجدة: الخطة، [و] الجدد: جميع الخطوط، يقال: جددت، أي: خططت، [و] يقال: ثوب جديد وثياب جدد، { وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ } أي: طرائق مختلفة ألوانها بعضها بيض وبعضها غرابيب وهي سود.

يذكر قدرته وتذكيره أن الجبال مع غلظها وشدتها وارتفاعها جعلها بحيث يتطرق منها في صعودها وهبوطها، فمن قدر على هذا لا يعجزه ولا يخفى عليه شيء.

السابقالتالي
2 3