الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } * { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } * { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } * { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ }

قوله: { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ }.

مكروا بنبيّ الله عيسى - عليه السلام - حيث كذبوه وهمّوا بقتله، { وَمَكَرَ ٱللَّهُ } ، أي: يجزيهم جزاء مكرهم؛ وإلا حرف المكر مذمومٌ عند الخلق؛ فلا يجوز أن يسمَّي الله به إلا في موضع الجزاء؛ على ما ذكره - عز وجل - في موضع الجزاء؛ كقوله:فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ... } [البقرة: 194] والاعتداء منهي [عنه] غير جائز؛ كقوله:وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ } [البقرة: 190]؛ فكان قوله: { فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ... } هو جزاء الاعتداء؛ فيجوز؛ فعلى ذلك المكر والخداع والاستهزاء: لا يجوز أن يسمَّى به، فيقال: يا ماكر، ويا خادع، ويا مستهزئ؛ لأنها حروف مذمومَّة عند الناس؛ فيَشْتُمُ بعضهم بعضاً بذلك؛ لذلك لا يجوز أن يسمَّى الله - تعالى - به إلا في موضع الجزاء. وبالله العصّمة.

وقوله: { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ }:

أي: خير الجازينَ أهل الجور بالعدل، وأهل الخير بالفضل.

وقيل: { وَمَكَرُواْ }؛ حيث كذبوه وهمَّوا بقتله، { وَمَكَرَ ٱللَّهُ }؛ حيث رفع الله عيسى - عليه السلام - وألقى شبهه على رجل منهم حتى قتلوه؛ فذلك خير لعيسى - عليه السلام - من مكرهم.

وقيل: { وَمَكَرُواْ } ، أي: قالوا، { وَمَكَرَ ٱللَّهُ }: قال الله. وقولهم الشرك، وقال لهم: قولوا التوحيد.

{ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } ، أي: خير القائلين.

قال الشيخ - رحمه الله -: { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ }؛ بما بالحق يمكر، ويأخذ من استحق الأخذ، وهم لا، والله أعلم.

والمكر: هو الأخذ بالغفلة، والله يأخذهم بالحق من حيث لا يعلمون؛ فسمي مكراً لذلك؛ كما يقال: امتحنه الله وهو الاستظهار، ولكن لا يراد به هذا في [حق] الله.

وقوله: { إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ }:

اختلف فيه: قيل: هو على التقديم والتأخير: ورافعك إليَّ، ثم متوفيك بعد نزولك من السماء، ولكن هو التقديم والتأخير، ولم يكن في الذكر فهو سواء؛ لأنا قد ذكرنا أنْ ليس في تقديم الذكر، ولا في تأخيره ما يوجب الحكم كذلك؛ لأنه كَمْ مِنْ مُقَدَّمٍ في الذكر هو مؤخَّر في الحكم، وكم من مؤخر في الذكر هو مقدم في الحكم، فإذا كان كذلك: لم يكن في تقديم ذكر الشيء، ولا في تأخيره - ما يدل على إيجاب الحكم كذلك؛ كقوله:ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا } [الزمر: 42]: فإنما هو قبض الأرواح؛ فيحتمل الأول كذلك، ويحتمل توفي الجسم، أي: متوفيك من الدُّنيا، أي: قابضك، وليس بوفاة موت.

وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } ، أي: مميتك وهو ما ذكرنا؛ ليعلم أنه ليس بمعبود.

وقوله: { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ }:

هو على تعظيم عيسى - عليه السلام - ليس على ما قالت المشبهة بإثباتها المكان له؛ لأنه لو كان في قوله: { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } يوجب ذلك، يجب أن يكون أهل الشام أقرب إليه؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - قال:


السابقالتالي
2 3 4