الرئيسية - التفاسير


* تفسير تأويلات أهل السنة/ الماتريدي (ت 333هـ) مصنف و مدقق


{ وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } * { وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وٱلأَبْرَصَ وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } * { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } * { إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }

قوله: { وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ }: بشارة منه لها - أيضاً -: أنه يعلمه الكتاب، ثم اختلف في { ٱلْكِتَٰبَ }؛ قيل: { ٱلْكِتَٰبَ }: الخط ههنا يخط بيده، ويحتمل { ٱلْكِتَٰبَ }: الكتاب نفسه: التوراة والإنجيل، ويحتمل { ٱلْكِتَٰبَ }: كتب النبيين.

{ وَٱلْحِكْمَةَ }؛ قيل: الحكم بين الخلق، وقيل: الفقه، وقيل: الحلال والحرام، وقيل: السنة.

{ وَٱلْحِكْمَةَ }: هي الإصابة، وقد ذكرناه فيما تقدم.

وقوله: { وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ }: أي: [جعله رسولاً إلى بني إسرائيل]، وهذا - أيضاً - بشارة لها منه، وكان عيسى صلى الله عليه وسلم من أوَّل أمره إلى آخره آية؛ لأنه ولد من غير أب، على خلاف ما كان سائر البشر، يكلم الناس في المهد، وأقرَّ بالعبودية له، ولم يكن لأحد من البشر ذلك، وإبراء الأكمة والأبرص، وإحياء الموتى، وأنباء ما كانوا يأكلون ويدَّخرون، وما كان له مأوى يأوي إليه، ولا عيش يتعيش هو به، والبشر لا يخلو عن ذلك، ثم ألقى شبهه على غيره؛ فقتل به، ورفع هو إلى السماء؛ وذلك كله آية، وكانت آياته كلها حسِّية يعلمها كل أحد، وآيات رسول الله - عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات - كانت حسِّية وعقلية:

أمَّا الحسِّية: فهو انشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، وكلام الشاة المسمومة، وقطع مسيرة شهر في ليلة، وغير ذلك من الآيات مما يكثر عددها؛ هذه كلها كانت حسِّية.

وَأمَّا العقلية: فهذا القرآن الذي نزل عليه، وهو بين أظهرهم، وهم فصحاء وبلغاء وحكماء، يتلى عليهم:فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ... } الآية [البقرة: 23]، وقوله:قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [الإسراء: 88]، فلو كان بهم طاقة أو قدرة أن يأتوا بمثله، لجهدوا كل جهد، وتكلفوا كل تكلف؛ حتى يطفئوا هذا النور؛ ليتخلصوا عن قتلهم، وسبي ذراريهم، واستحياء نسائهم، فلمَّا لم يفعلوا ذلك - دَلَّ أنه كان آية معجزة، عجزوا جميعاً عن إتيان مثله، فأيّ آية تكون أعظم من هذا؟! وبالله المعونة والنجاة.

وقوله: { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ }:

أي: بعلامة أني رسول منه إليكم، ثم فسَّر الآية، فقال: { أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ }.

قوله: { أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ }.

هو على المجاز، لا على التخليق [والتكوين]؛ لأن الخلق ليس هو من فعل المخلوق، وإنما هو من فعل الله - عزَّ وجلَّ - لأن التخليق: هو الإخراج من العدم إلى الوجود، وذلك فعل الله - تعالى - لا يقدر المخلوق على ذلك؛ فهو على المجاز؛ ألا ترى أنه قال في آخره: { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } ، وليس إلى الخلق تحليل شيء أو تحريمه، إنما ذلك إلى الله - عز وجل - فمعناه: أني أظهر لكم حل بعض ما حرم عليكم؛ فعلى ذلك قوله: { أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ } أي: أظهر لكم بيدي ما خلق الله من الطين طائراً؛ فيكون آية لرسالتي إليكم؛ وكذلك الآيات ليس مما ينشئ الأنبياء، ولكن تظهر على أيديهم.

السابقالتالي
2